يوم نُكب لبنان بالسلطة القابضة عليه، سارَع أمراؤها الى رذْلِ كل ما قبلها. فصادروا النزاهة والعفة والشرف، واعتبروها صفات حصرية بهم، وقدموا تلك السلطة على أنها خشبة خلاص للبلد، وقالوا إنّ لبنان مع هذه السلطة لن يكون كما قبلها!
وصدق وعدهم، وانقلب لبنان رأساً على عقب، ولم يعد كما كان من قبلهم، فقد كان وطناً ودولة وشعباً، ومع هذه السلطة لم يبق شيء من هذه الثلاثيّة؛ فالوطن صار في النّزع الأخير، اما الدولة فانحدرت الى أسوأ مراحل تفكّكها وتحلّلها، ومؤسّساتها واداراتها وكل قطاعاتها صارت عنواناً صارخاً للتخلّف والاهتراء والعفن، امّا الشعب فأضحى كائنات بائسة هائمة على وجهها تبحث عن رغيف.
ad
لم يخطىء وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان حينما تخوّف من أن يزول لبنان عن خريطة العالم ونترحّم عليه ليس كدولة بل كوطن؛ يومها اتّهمه بعض السلطة بأنّه يُهوّل. وعندما شبّه لودريان نفسه، وضع لبنان الحزين والمأساوي على حد تعبيره بسفينة «التايتانيك» التي تغرق، ولكن من دون موسيقى، انبرى بعض مُنافقي السلطة ومُطَبّليها ليلوموه ويتهمومه بالمبالغة في التوصيف، وقالوا ان «التايتانيك» غرقت وتحطمت، اما لبنان فهو كطائر الفينيق يمثل الخلود والحياة الابدية… لكن هذا الطائر سقط برصاصة صيّاد أهوج وانتهى الأمر، وصار لبنان و»التايتانيك» وجهين لمصير واحد… مشؤوم طبعاً!
ومع ذلك، لم يتّعظوا بعد، بل يمعنون في إنكار عبثهم بالبلد وبمصير شعب، ويرفضون الاعتراف بأن خشبة الخلاص التي وعدوا بها لم تكن سوى خشبة اعدام لكل بارقة أمل تلوح في أفق الازمة.
وفوق ذلك، يستمرّون في دحرجة كرة النار، التي حولت كل شيء في البلد الى رماد، بحيث لم يعد فيه شيء ليحرق. ويصرّون على انتهاج السياسة العرجاء نفسها، ويجيّرون فشلهم للآخرين، ويكرّرون تلك الاسطوانة المقيتة والمُغيظة «ما خلّونا نشتغل، وعم يعَطّلونا»… وها هم اليوم يتحصّنون من جديد في ملاجئهم السياسية والطائفية وينسفون الحلول ويسدّون مخارج الازمة ويبنون أسواراً حول مواقعهم وكراسيهم وامتيازاتهم حتى لا تطالها ألسنة النار. امّا البلد فليحترق وليذهب شعبه الى الجحيم. فالبلد والشعب في كفّة، و»الوريث» في كفّة والحكومة التي يجب ان تتشكل «عمرها ما تكون» إن لم تأتِ كما يشتهي هذا «الوريث». وعلى هذا الاساس طيّروا تكليف السفير مصطفى اديب، ثم طيّروا تكليف الرئيس سعد الحريري… وبطريقتهم المعهودة يمارسون اليوم لعبة «التطفيش» ذاتها مع الرئيس نجيب ميقاتي.
ad
واضح انّ هذا المنحى ثابت، انتُهِج على مدى خمس سنوات، وعلى وجه الدقة والتحديد انتُهج على مدى 58 شهرا من ولاية الرئيس ميشال عون، فهل ثمة من يعتقد انّ هذا المنحى الذي صار «ماركة برتقالية مسجلة»، سيتبدّل في السنة الاخيرة من الولاية، وللدقة في الـ 14 شهرا المتبقية منها؟
الجواب البديهي، يؤكد بما لا يقبل ادنى شك ان الرهان على تبدّل في هذا المنحى هو رهان خاسر، حتى لا نقول إنه رهان غبي.
لا شك ان تشكيل الحكومة يقع في هذه الفترة فوق كل الاولويات، ولكن مع المنحى المعتمد منذ خمس سنوات، لا يمكن افتراض ان في الامكان الوصول الى حكومة متوازنة، فقلم الرئيس لا يوقّع مراسيم أي حكومة، إلّا اذا كانت «على ذوق الوريث»، وقائمة على معاييره التي اضافها وأطاحت تكليفين، والتي تحوم اليوم حول تكليف ميقاتي.
هذا الواقع، يضاف اليه الانهيار المتسارع للبلد على كل المستويات، ينبغي ان يستفزّ الجميع للتفكير العميق في كمّ كبير من الاسئلة المرتبطة بما تبقّى من ولاية عون؟
ad
اولاً، هل سيبقى بلد من الآن وحتى نهاية الولاية الرئاسية؟
ثانياً، كيف سيُدار البلد إن لم تتشكل حكومة متوازنة؟ هل عبر مجلس الدفاع الأعلى؟ هل عبر المجالس الوزارية المصغّرة؟ أو خلق اعراف جديدة خارج منطوق القانون والدستور؟
ثالثاً، الاستحقاق النيابي صار على بعد بضعة اشهر، فهل ثمة من يضمن او يؤكد جازماً بأن الانتخابات النيابية ستجري في مواعيدها؟ وماذا لو لم تجر؟ هل ثمة من يستطيع ان يتخيّل الصورة آنذاك؟
رابعا، ربطاً بالسؤال السابق، هل ثمة من يضمن او يؤكد جازماً بأن الاستحقاق الرئاسي سيجري في موعده خلال الستين يوماً السابقة لانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، اي بين اول ايلول وآخر تشرين الاول من العام المقبل؟
خامسا، ماذا لو لم تجر الانتخابات الرئاسية في موعدها؟ فكيف سيدار الفراغ في سدة الرئاسة الاولى بعد خروج عون من القصر الجمهوري منتصف ليل 31 تشرين الأول 2022؟ فهل بحكومة تصريف الاعمال الممنوعة أصلاً من الصرف؟ الاّ اذا صدقت وعود ورغبات بعض المُغالين من النواب البرتقاليين بأن عون سيبقى في القصر؟ فهذا امر آخر؟!
ad
سادسا، هل سيكون لبنان في ما تبقى من ولاية عون امام 14 شهرا عجاف تَفرُز واقعا جديدا يكرّس موت الطائف (الذي يبدو في وضعه الحالي ميتاً سريرياً)، ويفرض البحث عن شكل جديد للنظام اللبناني؟ ومن سيتولى هذا البحث؟ وكيف؟ وأين؟ وهل سيكون هذا البحث على البارد ام على الساخن؟
سابعا، وهنا السؤال الأخطر، هل ستفرز مرحلة الفراغ الرئاسي – إن حصل – وقائع سياسية وغير سياسية، وربما أمنية، تستدعي الاستعانة بوصاية خارجية، تفرض هي الصيغة التي ستحكم لبنان في تلك الفترة؟
هذه الاسئلة وغيرها كثير، مشروعة، وتتردد على ألسنة الجميع تستبطن قلق كبيرا وخوفا على لبنان، لكنّها تصبح أسلئة منتهية الصلاحية يتبدد معها كل قلق وكل خوف على البلد، إن حكّ اللبنانيون فانوسا سحريا ليخرج منه مارد يُنزِل القابضين على السلطة الى ارض الواقع والموضوعية والعقلانية… فمن يملك هذا الفانوس فليحضره على عجل، ولكن شرط الاّ يكون برتقالياً!