Site icon IMLebanon

جان عبيد: الرئاسة التي لم تأتِ ساعتها

 

جان عبيد الذي غاب أمس، طراز فريد بين السياسيين اللبنانيين. نسيج نفسه. الصحافي الذي كان يعرف الكثير، أضحى السياسي الذي يعرف الجميع. لكنه أيضاً ذاك الذي يحتاج الجميع الى معرفته. حاروا في المهنة التي يزاولها منذ أن توقف عن الصحافة عام 1972، قبل أن يكتشفوا أنها السياسة: أن يكون في كل مكان، مع أي كان، يحاور في الثقافات والعقائد والأديان والسياسات، في قلب الأسرار، بلا أعداء، تتقاطع عنده التناقضات ولا تنفجر

 

لم يتوقع أحد أن يموت جان عبيد بفيروس. أن تنتقل إليه العدوى فتهلكه. طوال ثلاثة أسابيع انتظروا استيقاظه، فلم يفعل. صباح أمس الاثنين، كيوم اثنين ولد فيه قبل 82 عاماً، رحل.

 

في جان عبيد كمَنَ سرّه أنه، السياسي، يتصرف كصحافي. لا يرتوي من المعلومات، من غير أن يغدقها بسخاء. أحياناً يحمّل سامعه ما لا طاقة له على حمله، لكنه يحتاج الى معرفته. سرّ المعرفة عنده من سرّ الأداء ومن طول الصبر والأناة. ذلك هو السياق الذي رافق العقود الستّة في حياته.

قبل أن يصبح نائباً ووزيراً صار مرشحاً للرئاسة. ومن دون بلوغ الرئاسة التي عدّها على الدوام «إمضاءً إلهياً» يهبط من فوق أكثر منه يصعد من تحت، كان واثقاً من أن امتحان الرئيس، أي رئيس للجمهورية، ليس في ما سيفعله في المستقبل، بل ما كان فعله في ماضيه. لذا عُدّ من قلّة قليلة من مرشحي الرئاسة لا يخجلهم ماضيهم، ولا يُستغنى عن حاضرهم. إذذاك لا جدال في أن الرجل لن يكون إلا مرشحاً دائماً. أول الرؤساء عرفهم، وهو بعد صحافي، كان فؤاد شهاب. قابله في الحكم وفي الاعتزال، وخرج من عنده بخلاصة أن «الرئيس الصالح هو الرئيس العاقل». الدور المعوَّل عليه لالياس سركيس وتعثّر. أما الآخرون الذين سبقوه أو خلفوه، فامتيازاتهم نقاط ضعفهم: كميل شمعون وسليمان فرنجية في صورة «الرئيس القوي»، شارل حلو في صورة «الرئيس الضعيف»، أمين الجميّل «القوي» في مطلع عهده و«الضعيف» في آخره. لكن ماذا عن «الرئيس العاقل» ومن أين يؤتى به؟

خلافاً لميشال إده حينما كان يقول إن الرئاسة مرّت «من تحت المنخار» ست مرات، لجان عبيد رأي مغاير، هو أن «الظروف» تصنع رئاسته لا مواقيت الاستحقاقات فحسب. وهو مصدر اعتقاده بـ«paraphe» إلهي أحلّ كميل شمعون محل حميد فرنجية عام 1952، وشارل حلو محل عبد العزيز شهاب عام 1964، وأمين الجميل محل بشير الجميّل عام 1982، والياس الهراوي محل رينيه معوض عام 1989.

لكل من أولئك ساعته. بين مَن انتظرها ومَن فاجأته، ومَن خذلته.

ظل جان عبيد الى لحظة الرحيل ينتظر الساعة التي كانت تدور، من غير أن تتوقف عقاربها.

أول امتحاناته الصعبة كان عام 1989. بيد أن اسمه كان قد طرح في عزّ مداولات اتفاق الطائف بين حافظ الأسد وسعود الفيصل. كان أحد ثلاثة أسماء اتفقا عليها لرئاسة لبنانية تتولى تنفيذ اتفاق إنهاء الحرب: اثنان من داخل البرلمان هما: رينيه معوض والياس الهراوي، وثالث من خارجه هو جان عبيد. طرْح اسمه أزعج نواباً كان يفضّلون مكافأتهم على إنجازهم باختيار رئيس من صفوفهم. فاستقر الخيار على رينيه معوض.

على أثر اغتيال الرئيس المنتخب (معوّض)، بحثاً عن المرشح الذي يطمئن دمشق ويرضيها لخلافته، طلب حكمت الشهابي من رفيق الحريري إحضار جان عبيد من باريس على عجل في طائرته الخاصة. على متنها، عاد معه سمير فرنجية والفضل شلق. كان رفيق الحريري قد خابر جان عبيد وأخطره بأن ثمة موعداً ينتظره مع الرئيس السوري، بعدما تعذّر على نائب الرئيس ورئيس الأركان الاتصال به في العاصمة الفرنسية. شقة جان عبيد في باريس في شارع 2 جادة ديانا، بينما منزل رفيق الحريري يجاوره في شارع 5 جادة ديانا.

بعدما شارك في مأتم الرئيس الراحل في 23 تشرين الثاني 1989، قصد دمشق مساء واجتمع بعبد الحليم خدام وحكمت الشهابي. فاتحاه في انتخابه رئيساً للجمهورية وسألاه عمّا سيفعل مع ميشال عون رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية.

ردّ: كما أعطيتم زعماء الميليشيات فرصة الدخول الى السلطة، وبينهم مقاتلون وقتلة، يقتضي إعطاؤه هو أيضاً فرصة.

واقترح تأليف حكومة يشارك فيها الأفرقاء جميعاً، بمَن فيهم سليمان فرنجية وسمير جعجع وميشال عون، على أن يُعهَد إليه إحدى حقيبتي الدفاع أو الداخلية.

قال عبد الحليم خدام: أليس هو الذي يريد تكسير رأس سيادة الرئيس، ودقّ مسمار في نعش النظام؟

ردّ: كان كلام معارك وليس كلام اقتدار. هوبرة في حينه صارت بهورة. كما أعطيتموهم وبينهم قتلة، أعطوه هو.

سأله: قتلة؟

ردّ: بينهم سفلة حتى.

وسمّى اسمين.

سأل خدّام: إذا رفض؟

ردّ جان عبيد: نوجّه إليه إنذاراً بإخلاء قصر بعبدا. الجيش اللبناني هو الذي يوجّهه إليه.

قال: ليس هناك جيش لبناني.

ردّ: نجمع ألويته. الجيش اللبناني هو الذي يقود قمع التمرّد.

قال عبد الحليم خدام: لن ننتظر كي تجمع الألوية. يبدو أنك لا تريد للجيش السوري أن يتدخّل.

ردّ: نجمع ألوية الجيش اللبناني، ويكون الجيش السوري قوة إسناد.

قال: إذاً لا تريد دخول الجيش السوري الى قصر بعبدا.

ردّ: اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت الى بعبدا ولم تدخل القصر الجمهوري، مقر كرامة الشرعية. هل يجوز أن تكون سوريا أقل حرصاً على هذه الكرامة، وهل تفعل ما لم تفعله إسرائيل؟

كانت تلك إشارة صريحة الى استعجال دمشق إنهاء ظاهرة ميشال عون، لكن بآلتها العسكرية.

بخروجه من الاجتماع، لحق رفيق الحريري بجان عبيد ــــ وكان قد حضر نصف الساعة الأولى قبل أن ينصرف ــــ وهو يصرخ بعدما أخطره عبد الحليم خدام بفشل الاتفاق: لماذا فعلتَ ذلك؟

قال: هذه ليست ساعتي.

سأل: كيف؟

قال: عندما يريدون رئيساً ليس له أن يبدي ملاحظات على مشروع يُحضّر له، فهذا يعني أنهم لا يريدونه. طلبتُ حفظ ماء الوجه للجميع.

ردّ رفيق الحريري: أخطأتَ.

كرّر: ليست ساعتي.

أخفق التفاهم. أتى من ثم الحوار مع الرئيس السوري كي يفضي الى الخلاصة نفسها.

في حصيلة حوار طويل مع نائب الرئيس ورئيس الأركان، ثم مع الرئيس، من التاسعة والربع من مساء 23 تشرين الثاني الى الثالثة إلا ربعاً فجر اليوم التالي، لم تثمر مقايضة الرئاسة باستخدام الجيش السوري لإطاحة ميشال عون، فآل الخيار فوراً الى الياس الهراوي.

امتحان 1989 تكرر أمام استحقاق 1998.

أما الرواية التي لم يكن جان عبيد شاهداً فيها، أو أحد أبطال فصولها، فقصّها عليه اللواء غازي كنعان بعد سنوات على تركه منصبه في لبنان وأضحى وزيراً للداخلية في بلاده. زاره جان عبيد في منزله في دمشق، في 8 أيلول 2005، قبل شهر من انتحاره. إبان حديثهما، في حضور زوجتيهما، روى غازي كنعان ما حدث بعدما استهلّ كلامه معه بالقول: أنا مدين لك ولبلدك باعتذار.

ثم قصّ الآتي:

بعد جوجلة بضعة أسماء أفضت الى اثنين فقط، قرّر حافظ الأسد ونجله بشار المفاضلة بينهما هما: جان عبيد وإميل لحود. اقترح الأب الأول، وتحدث عن معرفة به للمرة الأولى عام 1963، وكان لا يزال في رتبة رائد قبل تعيينه قائداً لسلاح الجو، في مكتب رئيس الحكومة السورية صلاح الدين البيطار الذي استقبل الرائد لامتحانه. فتصافحا. حينذاك تعرّف جان عبيد الى الملازم أول مصطفى طلاس والنقيب حكمت الشهابي ومحافظ حماة عبد الحليم خدام.

دارت مناقشة طويلة بين الرئيس ونجله في حضور غازي كنعان، حول المواصفات المثلى للمرشحَين.

 

يوم قال لعبد الحليم خدام: أعطوا ميشال عون ما أعطيتم القتلة

 

 

قال الرئيس: أنا أثق بجان عبيد الذي هو قوميّ وعربي ووطني قبل وجود سوريا في لبنان وبعده، وهو يبقى نفسه كما أعرفه وأعرف خياراته. إميل لحود عرفته عندما التقيت به للمرة الأولى والوحيدة، ولم ألمس لديه بعدما تناقشنا مدارك سياسية.

ردّ الابن، وفق رواية غازي كنعان: أنا يُريحني إميل لحود لأنه لا يناقش كثيراً كجان عبيد، ولا يُتعبني، ولا يحتاج إلى أن تطلب منه كي يفعل ما تريده سوريا. يريح أكثر ويسهّل عليّ التعاطي معه. وقد لا أحتاج الى الاتصال به حتى.

التفت الرئيس الى غازي كنعان وسأله رأيه في هذه المفاضلة، فانحاز الى خيار الابن بالقول: معه حق الدكتور بشار. إميل لحود يريح أكثر.

لرئيس فرع الأمن والاستطلاع أسباب أخرى سوى ما تحدّث عنه الرئيس وابنه، مرتبطة بدوافع شخصية ــــ في الغالب تتحكّم بردود فعله وتحمله سلفاً على اتخاذ أحكام مسبقة ــــ كظمها قبل سنوات، وعبّرت عن امتعاضه من جان عبيد كي يقف في المقلب الآخر منه. ساءه أن يُقابله بخذلان لم يعتَدْه من أي أحد في لبنان إبان وجوده فيه، مهما علا شأنه، ولذا راح يعثر دائماً على اللحظة السانحة لتصفية الحساب معه.

على أنه عزا لضيفه اللبناني أسباب انحيازه إلى إميل لحود، إلى رغبته في الانتقام منه بعدما أحجم عن استجابة طلبين له في سنة واحدة.

أولهما، عندما طلب رفيق الحريري إطلاق اسمه على «مدينة كميل شمعون الرياضية» بعد إعادة بنائها مذ دمرها الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. توسّط لدى عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي لإقناع الياس الهراوي بإبدال التسمية التي أُطلقت على هذا الصرح المدشّن في 12 آب 1957، وحمل اسم صاحب الفكرة رئيس الجمهورية حينذاك. ذريعة رفيق الحريري أن من غير الطبيعي إعادة إطلاق اسم «مَن أتى بإسرائيل الى بيروت كي يدمرها»، بينما كان هو وراء إعادة بنائها، موجّهاً اتهاماً مباشراً الى الرئيس السابق الذي كنّ له المسؤولان السوريان الكبيران على الدوام كرهاً عميقاً. كُلف غازي كنعان نقل الطلب الى الوزير المختص، وزير التربية والشباب والرياضة جان عبيد، لاستجابة رغبة رئيس الحكومة، وقد جارى بدوره وجهة النظر هذه. رفض جان عبيد التخلي عن الاسم الأصلي للمدينة الرياضية، وألّب الياس الهراوي ضد هذا الاقتراح، فأطلق رئيس الجمهورية، في إعادة افتتاح المدينة الرياضية، في تموز 1997، بعد ترميمها اسم مُنشئها عليها، شأن ما فعل جان عبيد بعدما سبقه الى الكلام، وكان حاضراً حينذاك في مناسبة إطلاق دورة الألعاب الرياضية العربية الثامنة وليّ العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز.

ثمة خذلان ثان له، ذو بعد شخصي، عندما توسّط غازي كنعان لدى الوزير أيضاً في امتحان مراقبين تربويين لترفيع أحد الأشخاص لم يفز فيه. لم يستجب، فغضب بعدما وعد مراجعيه بتحقيق هذا الطلب. بيد أنه خاطب جان عبيد بعبارة مستفزّة عبّرت عن غطرسته المعتادة وصلفه: لو كنت أعرف أنك لن تفعل لأمرت أحد مساعدي الاتصال برئيس الجمهورية وطلبه منه، وكان سيفعل.

ليس صعباً على مَن خبِرَ غازي كنعان اعترافه بأن كمّاً لا يُعدّ من قرارات الدولة اللبنانية ورجالاتها الحلفاء، صنعها مزاجه وانفعالاته وعصبيّته حتى.

في رئاسة 2004، بعدما بدا أنه المرشح الأوفر حظاً لخلافة إميل لحود، وكان جان عبيد قد تبلّغ قرار دمشق دعم ترشيحه، أتى القرار 1559 كي يقلب الخيارات رأساً على عقب، فيصير الى تمديد ولاية الرئيس الحالي. أتى استحقاق 2007 المؤجل ستة أشهر على نار 7 أيار 2008 في بيروت، واستحقاق 2014 المؤجل 890 يوماً على نار انتظار انتخاب ميشال عون رئيساً.

هكذا الرجل، استحقاقاً بعد آخر، لم تأتِ الساعة.