في 12 شباط 1987 تمّ خطف جان عبيد. كان مستشاراً للرئيس أمين الجميل تولّى خطّ العلاقة مع سوريا منذ العام 1983 وكان له دور مباشر في هندسة عملية التراجع عن اتفاق 17 أيار. لم يُنقل إلى سوريا وشكّلت عملية خطفه تحدّياً لسلطة النظام السوري، الذي لم يُعرف عنه وقتها أنّه كان اختلف معه إلى الحدّ الذي يمكن أن يأمر باعتقاله أو خطفه واغتياله. ولذلك عمل هذا النظام على الضغط على الجهة التي خطفته ولم تعلن عن هويتها ونقلته إلى البقاع، فأفرجت عنه.
شكّل جان عبيد علامة فارقة في السياسة اللبنانية. بقي كثيراً منتظراً أن تحين ساعة تبوّئه سدّة رئاسة الجمهورية ولكنّه دائماً كان لا يملّ الإنتظار ولو كان يشعر بأنّ هذه الرئاسة تهرب منه كلما اقترب منها. ودائماً تعاطى معه محبّوه ومنتقدوه كأنّه الرئيس المقبل للجمهورية، واحداً من بين كثيرين كانت تُطرح أسماؤهم لتولّي هذا المنصب عند كلّ استحقاق رئاسي منذ العام 1988.
لم يدخل جان عبيد إلى عالم السياسة بسبب اقترانه في العام 1970 بالسيدة لبنى ابنة قائد الجيش العماد أميل البستاني. هذا الزواج أتى في وقت عصيب على العماد بستاني والعائلة. كان اتُّهم بأنّه تنازل كثيراً في اتفاقية القاهرة وأنّه كان يريد أن يخدمه هذا التنازل باختياره رئيساً للجمهورية. هذا العمل الذي بقي يُحسب سلباً عليه كان وراء اتخاذ القرار بإقالته من قيادة الجيش وتعيين العماد جان نجيم محلّه. لم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ ففي العام 1972 تم فتح ملف صفقة صواريخ كروتال الفرنسية التي طالت بشظاياها مرحلة قيادة البستاني للجيش وإن لم تصل إلى تحميل المسؤوليات وتحديد المتّهمين.
مؤهلات عبيد الفكرية والسياسية هي التي فتحت له أبواب عالم السياسة بدءاً من علاقته مع “حزب البعث” وانتقال هذه العلاقة لاحقاً إلى رئيس النظام السوري حافظ الأسد بعد تولّيه الرئاسة مباشرة في العام 1971. ولكنّه في أي مرحلة من مراحل حياته لم يظهر أنّه ملتزم حتى النفس الأخير بأي قضية أو أي جهة، أو أنّه على خصومة عدائية تجاه أي شخص أو أي جهة. كأنّه كان يملك مفتاحاً سرّياً يمكنه من خلاله أن يفتح ابواباً مقفلة في السياسة مع عجزه عن فتح أبواب أقفلت في وجهه هو.
في العام 1989 كاد يكون رئيساً. بعد “الطائف” كان خياراً مطروحاً ولكنّ التوافق تمّ على انتخاب رينيه معوض. بعد اغتيال معوض حملته طائرة الرئيس رفيق الحريري إلى دمشق حيث التقى رئيس النظام السوري حافظ الأسد ونائبه عبد الحليم خدام. ولكن نتيجة الإمتحان الذي خضع له كانت سلبية فحُذف اسمه من اللائحة ووقع الإختيار على النائب الياس الهراوي. السؤال الصعب الذي لم يحسن الإجابة عليه كان عمّا يريد أن يفعله بالعماد ميشال عون. طلب أن يُعطى فرصة للتسليم بالواقع الجديد. بينما الهراوي تعهّد بإخراجه بالقوّة من قصر بعبدا. هكذا صار الهراوي رئيساً.
عارض عبيد التمديد للهراوي ورفع سقف معارضته التمديد للرئيس أميل لحّود وكان يعرف أن هذه المعارضة لا تفيده ولا تصبّ في مصلحته، خصوصاً بعد صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن وتمسّك النظام السوري بلحّود. وربّما اعتبر أنه يسجّل موقفاً مبدئياً، وإن لم يلتزم دائماً بهذه المبدئية. كان يمكنه مثلاً أن يرفض تعيينه نائباً في العام 1991 في مقعد كميل شمعون في الشوف ومع ذلك قَبِل. ثم قبِل أن يشارك في انتخابات العام 1992 التي عارضها البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير ومعظم القوى السياسية المسيحية لأنّها كانت تشكّل انقلاباً على الطائف.
علاقته مع صفير لم تكن إيجابية. لعلّه اعترف متأخراً بأنه ندم على ما بدر منه تجاه رأس الكنيسة المارونية. بعد حلّ حزب “القوات اللبنانية” في آذار 1994 على أثر تفجير كنيسة سيدة النجاة وتوجيه التهمة إلى “القوات”، تصاعدت حدة مواجهة السلطة مع البطريرك صفير الذي هالته عملية الإتهام والإعتقالات ومصادرة ممتلكات “القوات”، قبل أن تتأكد التهمة فأعلن في أول نيسان معارضته لما تقوم به سلطة الوصاية وسأل عن سبب ابتعاد المسيحيين عن الدولة ورفض سياسة القمع والتهميش. عندما طُلب من أكثر من نائب ووزير ماروني الردّ على البطريرك تولّى عبيد المهمة. زار صفير في بكركي واحتدّ النقاش بينهما على خلفية من يمثل المسيحيين، واستغلّ عبيد منبر بكركي ليشنّ هجوماً لاذعاً على البطريرك. هذا الهجوم السيئ جعل صفير الهادئ يقرّر عدم استقباله ثانية. حاول عبيد التراجع عن الخطأ الذي ارتكبه ولم ينجح في نيل مسامحة البطريرك إلّا بعد أشهر. وقد استغرق الأمر سنوات عدة حتى عاد عبيد يعترف بخطأ موقفه من صفير، معلناً إعجابه المتأخر بهذا البطريرك الصلب والشجاع.
لم ييأس عبيد من انتظار أن تحين ساعة رئاسته. ولكنّه في كلّ الأحوال لم يحوّل رغبته بتولّي هذا المنصب، الذي اعتبر أنه جدير به ويستحقّه، إلى التنازل عن مبادئ تحلّى بها وعن كرامته وعن المستوى الذي يعتبر أنّ على رئيس الجمهورية أن يتمتّع به. وربّما لذلك بقي رئيساً مع وقف التنفيذ وبقي ذلك السياسي المثقّف والحامل للكثير من الأسرار والروايات، مستغرقاً وقته الطويل في مكتبه بين رفوف الكتب التي قرأ معظمها محتفظاً دائماً بضحكة حاضرة وبسخرية لا تتخطّى حدود الأدب، محتفظاً لنفسه بما لا يمكن البوح به. لقد روى الكثير ولكنّه في النهاية لم يروِ روايته وإن كان في معظم رواياته يكون حاضراً كبطل من أبطالها. كأنه كان طوى ذاكرته على رواية خطفه متجنبا الحديث عنها وكأنها لم تحصل. هذه المرة خطفه الموت في 8 شباط بعد 34 عاما ولكنه لن يعاد ولن يعود.