Site icon IMLebanon

مدرسة جان عبيد

 

كانت تلك المرة الوحيدة التي لم يجب فيها جان عبيد على اتصالي. استغربت قليلاً وقلت إن شيئاً خطيراً يشغله. ثم أقنعتُ نفسي بأنه سيعود للإتصال كما كان يفعل منذ ثلاثين عاماً ومن دون إنقطاع. إلا انه لم يتصل، فقد اختطفه الموت من دون إنذار. ومتى كان الموت لينذر.

 

لم يكن ابو سليمان الذي اصابنا غيابه بصدمةٍ لا نجاة منها، مجرد سياسي عادي يكدس العلاقات والصداقات والأصوات. كل من عرفه يعرف أنه يُقيمُ وزناً لكل علاقة، لكل شخص، لا فرق في الموقع والرتبة والراتب. وفي مكتبه، حيث تتكدس الكتب والموسوعات، رفوفاً على الجدران وفوق زوايا المكتب العتيق، وعلى الطاولات الصغيرة، ومساند المقاعد، كان معاليه، الوزير الناجح والنائب المحترم، يخصص لكل من ضيوفه وقتاً وشيئاً من نفسه، تجربته، معارفه، ثقافته وخبرته في سياسة الحياة، ثم إيمانه بأن لا شيء يستمر الى ما لا نهاية، وأن الأفضل مُقبل مع قليل من “الرغبةِ… والقدرة”.

 

لذلك، لا تُفاجأ يا استاذنا الراحل في غير أوانك، ان تأتي شهادات المئات ممن أحبوك والتقيتهم، متماثلة، لأنك كنت للجميع قامةً فريدة في السلوك الإنساني، تضع الأخلاق من أضيق تعابيرها الفردية الى أوسع معانيها السياسية في المقدمة… آلة قياس وحَكَمْ.

 

الجميع له قصته مع جان عبيد، في الحزن، في الفرح وفي اليوميات العادية. وللجميع منه، أُسلوب حياة وقواعد احترام. سيروون، وسنروي قِيم العائلة التي تمسكت بها، وآداب السلوك، وتكريم الأكبر سناً، وسنسترجع أسئلتك التفصيلية عن شؤون الحياة وشجونها، عن الابناء والبنات والأحفاد والحفيدات، أشغالهم وأوضاعهم، وآمالهم وأحلامهم، وكل ذلك قبل ان تحدثنا بخفرٍ ودقة عما سنسأل عنه، من زواريب السياسة وزعماء زواريبها. كان ذلك في آخر سلّم اهتماماتك. احترمت الجميع، في زمن فلتان الألسنة، وراهنت على الحس السليم لدى الناس، فأصبت، وها هم اصحاب لبنان الذي أحببت يجتمعون حول اسمك كما لم يجتمعوا من قبل، وهم إذ يغادرون، معك، مكتبك وكتبك، يتهامسون بفخر: نحن أصدقاء جان عبيد…