واكبت جريدة “البلد”، المرحلة التمهيدية لانتخابات رئاسة الجمهورية، قبل انقضاء سنوات العز التسع للجنرال إميل لحّود، باستطلاع ومتابعة يومية لتبيان حظوظ 10 مرشحين لخلافته، ونسبة التأييد التي يحظى بها كل منهم، والمرشّحون هم إلى صاحب الفخامة النوّاب العماد ميشال عون، بطرس حرب، نسيب لحّود، نائلة معوّض، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أمين الجميّل، البروفسّور شبلي الملّاط، ميشال إده ووزير الخارجية السابق جان عبيد. كانت صور المرشحين ونِسب تأييدهم تنشر يومياً في الصفحة الأخيرة فوق الزاوية التي تناوبت على كتابتها مع زملاء. وفوق المقال صورة لي تدعو إلى التفاؤل بالغد.
في 22 نيسان 2006 كتبتُ: ماذا لو حصل خطأ تقني ونزلت صورة هذا المرشّح أو ذاك مكان صورتي وأخذت أنا مكانه، وخصصت جان عبيد، ولم أكن قد التقيته قبلاً، بعبارة لاذعة: “أما حلولي بديلاً موقتاً، (من طريق الخطأ) للنائب جان عبيد فسيرفع قليلاً من شعبية معالي وزير الخارجية السابق، ولا يضيرني أن يعتقد القرّاء أنه كاتب مقالي”. رن الهاتف وكان عبيد على الخط الآخر وقد رشقني، قبل السلام، بباقة من الشتائم، التي اعتدتُ عليها في ما بعد. شتمني بتودد ومحبة ومرح ودعاني إلى لقاء مطوّل… خرجت منه وأنا أكثر تمسكاً بخياراتي، النقيضة تماماً لخيارات عبيد. خرجتُ من مكتبه القديم المشقوع كتباً وذكريات لأعود إليه كلّما اتصل شاتماً ومحبّاً معلناً اشتياقه ومعلّقاً على آخر مقال بإضافات وخبريات، وهو الصحافي قبل السياسة، والقارئ المتذوّق لذائذ نصوص فالتة من كل قيد.
في مطلع السنة الجديدة، كان اللقاء الأخير بيننا من دون كمامات بطلب منه، خرجت منه بنصيحة لتقوية المناعة “أكثِر من الثوم والبصل” وبهدية العيد “زيت وزيتون وعرق” وما حدا أحلى من حدا، رفيق الحريري كان يحصل على هدية مماثلة وجميع من هم على جدول الأصدقاء، سياسيين وصِحافيين!
توالت اللقاءات مع رجل الإنفتاح والحوار والعقل البراغماتي الواقعي، المتضلّع في أمور الدين والدنيا والأدب، حافظ أسرار السياسة اللبنانية منذ ستينات القرن الماضي، يكشف منها القليل، وإن أصررت على معرفة المزيد، يطوّق حشريتك لسماع أخبار طازجة بفتح أبواب أخرى، فيقودك مرة إلى شعر المتنبي إن لمس لديك ميلاً إلى الشعر، ومرّة يقودك إلى فؤاد شهاب وإلى شهادة سعود الفيصل به وإطلاق لقب “وزير خارجية العرب” عليه… يحق له أن يعتد بنفسه، وكم من مرة استرجع قول الحريري “كنت يا جان معلمي (في الصياد) وصرت معلمك (في الحكومة) وما عندي مانع ترجع معلمي (في رئاسة الجمهورية)”. طرقت الرئاسة بابه مراراً وفُتح الباب لسواه.
جان عبيد لم يعد بيننا لا اتصال ولا سلام ولا كلام.