IMLebanon

لا هو ميت ولا نحن أحياء

 

لا عزاء في ترداد الحكمة القائلة: الموت حق. هو “خبط عشواء” كما رآه الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى. ولعنة كورونا في هذه الأيام الصعبة. وما أقسى أن يرحل صديق عمرك الذي كان لك أكثر من أخ بضربة عدو غير مرئي، وهو لا أعداء له، وتبقى وحيداً في صحراء من الخوف واليأس بلا أمل. الخوف من ألا يبقى لنا ما نعيش فيه وعليه سوى ذكريات الماضي. واليأس من أن يتخلى الحكام عن العناد في تكبير الحصص لكي يتولى العالم إنقاذ لبنان الذي يتسارع إنهياره أمام عيون المافيا وصراعها على بقاياه.

 

“لست خائفاً من الموت بل غاضب عليه” يقول غابرييل مارسيا ماركيز. وما أصعب أن أكتب عن جان عبيد، وأنا “حزين حتى الموت” وغاضب حتى الرمق الأخير من الحياة. حزين على خسارة الصديق أمير الوفاء وفنان الحياة كإنسان. وغاضب على خسارة لبنان لرجل الحكمة في زمن الحماقة، وصاحب العقل الرزين أيام الجنون، وسيد الإنفتاح في مراحل الرهان على العصبيات والإرتهان لها. وزير الخارجية الذي سماه الأمير سعود الفيصل ونظراؤه الوزراء “حكيم العرب”. و”الرئيس” الذي خسره لبنان لأنه لم يأتِ، بسبب رفضه قبول ما تقبّله وسلّم به سواه.

 

لا حدود لتفاؤل الإرادة عند جان عبيد مهما تكن الظلمة كثيفة والرؤية صعبة. ولا تردد في قول الرأي الناصح للأقوياء في السلطة والتسلط وفي الدفاع عن الضعفاء والمظلومين. لم يكن ما يقوله في المجالس الخاصة سوى ما يقوله في العلن. ولا كان ايمانه بجوهر لبنان وإدراكه لتاريخه وفهمه للتوازنات في معزل عن إيمانه الأصيل بعروبة لبنان منذ كان طالباً في طرابلس قبل عقود من النص في اتفاق الطائف على أن لبنان”عربي الهوية والإنتماء”.

 

جان عبيد مثقف من منابع متعددة. المتنبي شاعره الأثير المفضل الذي حفظ ديوانه وكان يجد فيه لكل حالة بيتاً ينضح بالحكمة من قصيدة له. يستشهد بالإنجيل والقرآن و”نهج البلاغة” للإمام علي وكتب التراث العربي بمقدار ما، ودأب على قراءة الفكر الأوروبي ومذكرات الشخصيات التاريخية ومتابعة التيارات الجديدة في الفكر السياسي الأميركي، والحرص على لقاء الشخصيات العربية المهمة. بيته ومائدته ملتقى الأصدقاء. وحتى الذين على خلاف مع بعضهم بعضاً يرتاحون عند الصديق المشترك جان عبيد.

 

عملنا معاً في صحيفة “الأحرار” في النصف الأول من الستينات، وفي “دار الصياد” في مطلع السبعينات، قبل أن يتفرغ هو للعمل العام، وأغرق أنا في مهنة البحث عن المتاعب. ومن يومها لم نفترق. لكن كورونا خطفه. ونحن مشاريع مخطوفين. فلا هو ميت، ولا نحن أحياء. أليست “الحياة قصة خرافية يرويها أحمق مملوءة بالصخب والغضب” كما قال شكسبير؟