IMLebanon

جان عبيد رفض منصب رئاسة الجمهورية ورحل…

 

 

«الله يرحم» الوزير الاستاذ جان عبيد، كم كان ذا خلقٍ عالٍ، ومهذّب، وغالباً ما كان يقرأ القرآن الكريم، فقد حفظ القسم الأكبر منه، وكان يستشهد بكثير من الآيات البيّنات.

 

كان مثقفاً، في أعلى مراتب الثقافة. إذا جالسته في مكتب تشعر أنك جالس في قلب مكتبة لا يوجد فيها مكان للجلوس. كما كان الراحل الكبير علماً من أعلام الصحافة، وكاتباً ينتظره عشاق الكلمة الحرّة.

 

أحب الكتاب وعشق القراءة، من أكثر الرجال ثقافة كما ذكرت، ومن أنبل الناس أخلاقاً.

 

كان هناك موعد شبه دائم بيني وبينه رحمة الله عليه، كل شهر فإذا تأخرت يتصل به ويسألني أين أنت؟ عرفته منذ زمن بعيد وكنت من أكثر الناس إعجاباً به.

 

هذا الكبير لا يمكن أن يتكرّر، لا أخلاقياً ولا علمياً، ولا تهذيباً.

 

كان أنيقاً في اختيار ثيابه، أنيقاً في كلامه وهادئاً في حديثه.

 

لا يمكن أن تجلس معه إلاّ وتستفيد من واسع معلوماته وعلمه ومعرفته.

 

من القلائل في هذا الكون الذين يرفضون المناصب.

 

علاقاته العربية كانت على أعلى مستوى من التميّز بدءًا بالمرحوم الرئيس حافظ الأسد الى كل ملوك ورؤساء العالم العربي… كلهم يحبونه ويحترمونه ويقدّرونه وليس من أحد إلاّ ويبدي إعجابه به، عندما تأتي على ذكره.

 

أتذكر بحكم علاقتي بالرئيس حافظ الاسد، أنه في العام 1990 اثناء انعقاد «مؤتمر الطائف»، طلب الرئيس الأسد منه الذهاب الى سوريا حيث كان في انتظاره المرحوم نائب الرئيس السوري الاستاذ عبد الحليم خدام… بعد انتهاء الاجتماع مع «أبو جمال» أبلغه أنّ الرئيس حافظ الأسد ينتظره، فذهب للإجتماع بالرئيس حافظ الأسد، ودار حديث بينهما، حيث سأله الرئيس حافظ الأسد مستغرباً، كيف ترفض أن تكون رئيساً للجمهورية؟.. فكان جوابه على الشكل التالي: إنّ رئيس الحكومة المكلّف العماد ميشال عون رجل عنيد، وغير قابل للنقاش ولن يترك قصر بعبدا إلاّ إذا أجبر بالقوة على تركه، وأنا بطبيعتي أكره العنف وأكره أن تسيل الدماء، من أجل كرسي. لذلك أفضل أن أبقى بعيداً عن هذا الموضوع حتى ولو كان هذا الموقع يتمناه كل رجال السياسة في لبنان وفي العالم كله.. حتى ان الكثيرين من رجال السياسة كانوا على استعداد لدفع المبالغ الكبيرة للحصول على هذا المركز.. وغيرهم يمكن أن يسلكوا طريق الدم والنار للوصول الى هذا المنصب، والتاريخ مليء بهذه القصص والروايات.

 

نعود الى تلك الجلسة بين الرئيس الأسد وبين الوزير جان عبيد، لنرى بعد ذلك أنّ رؤية الوزير كانت سليمة وصحيحة. إذ انتخب الرئيس ميشال معوّض ولم تمضِ أيام حتى فُجّر موكبه مقابل وزارة الداخلية في الصنائع، ولغاية اليوم لم يُعرف من قام بهذا العمل الإجرامي. وكما هي حال الجرائم السياسية فإنّه يُعْلَم من هي الجهة التي قرّرت ونفذت، لكن أحداً لن يصل الى القاتل. وهنا لا بد من القول إنّ السبب الذي قُتل من أجله الرئيس معوّض هو رفضه استعمال القوة لإزالة حالة التمرّد في قصر بعبدا. وهكذا قُتل الرئيس معوّض بعد أيام قليلة من انتخابه وذلك في 22 تشرين الثاني عام 1989.. حيث انتخب بعده الرئيس الياس الهراوي في 1989/11/24.

 

وبعد تسلم الرئيس الهراوي مهامه عقدت جلسة لمجلس الوزراء تم فيها اتخاذ قرار بإزالة حالة التمرّد في قصر بعبدا وطلب من الجيش تنفيذ الأمر. وهكذا استعان الجيش اللبناني بالجيش السوري حيث دخل اللواء علي ديب الى قصر بعبدا، ودخلت القوات السورية الى وزارة الدفاع لأوّل مرة خلال الحرب اللبنانية. ونذكّر أنّ الرئيس سليم الحص رفض في الاجتماع الوزاري العملية العسكرية لكن الرئيس الهراوي قال له: إنّ ميشال عون ماروني وأنا اتخذت القرار وأنا ماروني… وهكذا هرب ميشال عون بالبيجاما، وكان أوّل إنسان يهرب من أرض المعركة، بالرغم من قوله إنه لن يترك ساحة المعركة، ولكن عندما سمع صوت أوّل مدفع، هرب كما هو معروف بالبيجاما الى السفارة الفرنسية في الحازمية تاركاً زوجته وبناته الثلاث اللواتي سلمهنّ اللواء علي ديب الى الوزير إيلي حبيقة، قائلاً له: «ردّ الجميل لميشال عون، فكما أنقذك، عندما حاصرك سمير جعجع في المجلس الحربي، ردّ عليه زوجته وبناته».

 

أخيراً… لا بد لي من أن أتحدّث عن كرم الراحل الكبير، حيث كان يهديني، وفي كل مرّة أقوم بزيارته: سبحة «مسبحة» أو ربطة عنق، أو تنكة زيت و«غالون» عرق، وكيس زيتون…

 

إنّ هذه العادة، كانت متجذّرة متأصّلة فيه، ومع كل من يزوره، كان المرحوم يقدّم الهدايا التذكارية…

 

تغمّد الله الفقيد الكبير بواسع رحمته، وغفر له كل ذنوبه، وأسكنه فسيح جنّاته… ولآله ومحبيه وأصدقائه الصبر والسلوان. وإنا الله وإنا إليه راجعون.