IMLebanon

“فخامة الحكيم”: أبعاد الحاضر ودروس الماضي

 

حين تتأخر عن زيارته يبادر الوزير السابق والنائب اللبق جان عبيد للسؤال عنك ويدعوك الى فنجان قهوة في مكتبه الكائن في سن الفيل. هناك حيث تجمعت عشرات الكتب، اعتلت الجدران صور العائلة ولقاءاته مع رجال الدين وزعماء العالم. له في كل صورة حكاية. ما ان تجلس حتى يبادرك بكلمة “عم اسمعك” في إشارة منه للاستماع الى تقييمك لوضع البلد. وباختصار تتحدث وانت القاصد للتعرف الى رؤيته وتحليله للوضع، فتفاجأ ان الرجل لم تفته شاردة او واردة بل هو خزان معلومات لفخامة سياسي محنك لم يحد لقاءاته واتصالاته زمان ولا مكان. وكلما اتى على ذكر شخصية ما خلال اللقاء سارع للاتصال بها معاتباً او مستفسراً. في ذاكرة جان عبيد محاضر مجالس بقي يحفظ امانتها حتى آخر ايام عمره. موسوعة تؤمن لك الربط بين الحاضر وأبعاده والماضي ودروسه وعبره.

 

النائب الذي استحدث لأجله مقعد نيابي للموارنة في طرابلس، لم ينقطع عن زيارة الرؤساء مستمعاً وناصحاً. بادر وصارح وعاتب وبقي قريباً من الجميع لا تزعجهم حتى قساوة عباراته التي يقولها تحبباً. عزّ عليه كيف انحدر الوضع الى هذا المستوى من الطائفية واللاوعي السياسي وكيف غيبت لغة العقل وحل التعصب والشخصانية. المستشهد دائماً بآيات من القرآن وروايات أهل البيت جمع بسلسلة واحدة هي الاحب على قلبه آية الكرسي وصليب السيد المسيح.

 

تربّع جان عبيد على قمة الحكمة والدراية وفهم التوازنات المحلية والاقليمية وأتقن فن الديبلوماسية وعلم الكلام، وبرع في إسداء النصائح والحكم، فتربع على عرش التوافق والتآلف في زمن الخلاف والاختلاف. رسم خطوطاً بينية للرؤساء اللبنانيين في الأيام الصعبة التي صنعت تاريخ لبنان الحديث. بدأ حياته يسعى وراء الحدث والخبر صحافياً لامعاً وكاتباً ذا نكهة مفعمة في القراءة المتأنية للحوادث والتطورات التي تشكل منها وبها تاريخ لبنان الحديث، قبل ان يرتد صانعاً للاحداث ومشاركاً في صياغتها ورسم آفاقها حتى غدا كاتماً للاسرار واللقاءات والمحادثات. وتكاد تكون المعرفة الزائدة هي بالذات التي أبعدت عنه كرسي رئاسة الجمهورية.

 

نال اعجاب الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد بذكائه وفطنته وصدق نظرته للحوادث التي ألمّت بلبنان وعصفت بالمنطقة وموقفه الثابت تجاه القضية الفلسطنية، وهو الذي نقل بأمانة تقريب وجهات النظر بين البلدين غداة الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982. وقد فاجأ الاسد بعد اسقاط اتفاق 17 ايار الذي صاغ عبيد بيان إلغائه، عندما قال عن الرئيس السوري انه معاوية بن ابي طالب لانه استطاع ان يجمع بين شخصيتي الامام علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان، بمزيج من الحنكة والدهاء والحكمة. نسج علاقة مميزة وعقداً متيناً من الصداقة مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري حتى غدا الداعم الاساسي له في الوصول الى رئاسة الجمهورية.

 

حظيت شخصية عبيد بمكانة احترام كبيرة لم ينلها الكثيرون. نجاحه في العمل الوزاري والطراز الرفيع الذي حاكه في عمله، دفع وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل لأن يطلق عليه تسمية “حكيم وزراء الخارجيَّة العرب”، بعد الاجتماع الوزاري لوزراء الخارجية العرب في القاهرة. لم يسعفه الحظ بالوصول الى رئاسة الجمهورية، وان كان شكل بظله التهديد الحاسم والقلق المزمن لكل الرؤساء الذين تعاقبوا على الرئاسة منذ اتفاق الطائف وحتى وفاته.

 

لقد فرط “كورونا” سبحة عمر رجل، حسده الكثيرون الكثيرون… حتى على موته الذي اجمع الكل على انه قامة وطنية واخلاقية هوت في عز الحاجة الى أمثالها.