IMLebanon

خيبة المسافة الواحدة

 

سيكون من الصعب العثور على نقد قاسٍ لجان عبيد. سيكون من الصعب العثور على نص يستهزئ به أو حتى يشمت بموته. وسيكون من الصعب العثور على من يعتبر الكون أكثر أماناً بموته.

 

بالعكس، ستجد كثيرين، من كل المطارح والجهات، يفتقدون الرجل. سينعاه أشخاص وجهات وقوى متخاصمة، لا بل متناحرة. وستجد الكثيرين من الذين يمدحون دماثة الرجل، وهدوءه، وبحثه عن الأفضل في الصورة.

من الصعب أن تتذكر جان عبيد من دون أن تضحك في سرّك على تعليق يعكس فهماً لما قيل أو كتب، وإن كان من الصعب أن تعثر على ما ينسب إليه مدحاً بفلان أو ذماً بآخر.

لكن، لجان عبيد سيرته. له تجربة طويلة جداً في العمل العام. له سعي حثيث للعب دور في نادي الكبار. وهو الذي تعرّف على الكبار في هذه المنطقة، وعرفهم عن قرب، وكان واثقاً بحقه في أن يكون واحداً منهم. وهذا ما جعله على الدوام مرشحاً لرئاسة الجمهورية.

يأخذ عليه البعض أنه لم ينضم الى جبهة بصورة جلية. ويأخذ عليه البعض الآخر أنه فوّت الفرص يوم أتيحت له الرئاسة، شرط الاقتراب أكثر من هذا الفريق أو ذاك.

ما أعرفه شخصياً، عن الرجل الذي تعرفت عليه جيداً قبل ربع قرن، أنه كان واضحاً في التمييز بين معرفته بالآخرين، وموقفه منهم. فهو لم يكن يجهل كل من يقف قبالته، لكن، لم يكن هذا شرطاً كافياً لتحديد الموقف. وهذا ما جعله في نظر الغالبية، «صديق الجميع»!

صحيح أن جان عبيد كان مولعاً بالتاريخ الإسلامي والمسيحي – وهو لم يكن ينفي شغفه بهذا التاريخ ربطاً بواقع بلادنا ومنطقتنا – لكن ذلك لم يكن يكفي ليجعله في قلب المشهد على الدوام.

جان عبيد شعر مبكراً بأن هناك مشكلة في التمثيل السياسي للمرشحين الأوائل لمنصب الرئاسة. لم يكن ليغش نفسه بأنه صاحب شعبية أو لديه حشود من المناصرين. لكنه كان على الدوام يعتقد أن الرئيس الفعال، الذي يقدر على لعب دور يناسب واقع لبنان، هو الرئيس غير المحسوب على محور ضد آخر. وهذا بالضبط ما جعل اسمه يشطب من اللائحة القصيرة لحظة يحين وقت اختيار الرئيس.

 

لن يكون مهماً أن يحاول الجميع جذب جان عبيد صوبَه، لكن المهم ألا ينسب أحد إليه ما لم يؤمن به يوماً

 

 

لكن جان عبيد لم يواجه اليأس إزاء لعنة المرشح الدائم، بل كان يشعر على الدوام بأن لديه الحق في أن يشرح لكل صاحب قرار وجهة نظره حول حاجة لبنان الى رئيس مسكون بفكرة المسافة الواحدة من الجميع. وهي الفكرة التي جعلت سوريا تقبله مراراً وترفضه كثيراً، كما هي حال السعودية، كما هي حال قوى أخرى في لبنان، من المسيحيين وخارجهم أيضاً. كان على جان عبيد أن يدفع الثمن مرتين: مرة أولى لأنه اختار طريقاً لم يعد مدرجاً على جدول أعمال شعب قرر الاختيار بين لونين فاقعين. ومرة ثانية، لأنه فقد القدرة على مخاطبة الجيل الجديد بلغة تشرح لهم تاريخ لبنان كما عرفه هو.

كثيرون ممن التقوا الرجل، وعايشوه وناقشوه وسمعوا منه واسمعوه، يمكنهم كتابة مئات الصفحات عن أفكار الرجل أو مواقفه أو خياراته وتطلعاته. ومشكلة «صديق الجميع» أن الجميع سيدّعي أنه كان الأقرب الى عقله أو الى قلبه…

في جان عبيد خصلة يحسد عليها الآباء. إنها خصلة العارف بأمور شخصيات كثيرة وتجاربها ودواخلها. وفي حالة لبنان، كان من شبه المستحيل أن يكذب عليه أحد في معرض شرح الوقائع أو مواقف القوى والشخصيات. كان يعرف الجميع، أو يعرف عنهم الكثير الكثير…

ولأنه كذلك، ولكونه من القلائل الذين لم يشتروا خصومات مجانية، فلن يكون مهماً أن يحاول الجميع جذب جان عبيد صوبَه، لكنّ المهم ألا ينسب أحد إلى الرجل ما لم يؤمن به يوماً… خذوا منه ما تشاؤون، ولا تضيفوا الى سيرته ما لم يقله في العلن!