مع رحيل جان عبيد يحن المرء إلى رجال السياسة الذين يتمتعون بقدر عالٍ من الإنسانية والثقافة وسعة الصدر والأفق، والرقة والذكاء والوضوح في الرؤيا. يفتقد المرء هذا الصنف النادر الذي يرمز غيابه إلى اضمحلال السياسة بمعناها النبيل، وإلى غياب نمط من العمل العام تسوده العقلانية، ليحل مكانه نمط من الزبائنية، ومزيج من التبعية العمياء والخضوع والغدر والانتفاع والرياء، باسم الشعارات الرنانة.
تركَنا ملك الكلام وأمير اللباقة، وسط طبقة سياسية غير قابلة بمعظم رموزها للتطور. فهؤلاء غارقون بين ترهات تخلف الماضي، وبين ادعاءات الحداثة غطاء لمطامع نفعية ولتسلط عصبوي وامتيازات مزعومة.
لم يُخضِع جان عبيد طموحاته لمفاتن المناصب العليا كما يفعل بعض أقزام السياسة، الذين يتنازلون عن كل شيء لأجلها، بما فيها الكرامة الشخصية. المرشح الدائم للرئاسة لم يكن يطرب لهذا اللقب، لأن هذه الصفة لا تقدم جديداً في الممارسة السياسية وللناس، ولذلك لم يكن يبحث عن مرتبة مرشح بل عن مرتبة رئيس كي يتمكن من الإنجاز. كان إسمه على طاولة أصحاب القرار منذ الثمانينات.
لكن جان عبيد الذي ساقته الأقدار من الصحافة إلى العمل السياسي، كان شديد التمسك بأخلاقية الخدمة العامة. أراد الرئاسة مع الاحتفاظ بالكرامة، فإذا تعذر ذلك فضّل الكرامة وحدها. استقلاليته ومبدئيته تقدمتا على طموحه الرئاسي، ما حال دونه والمنصب أكثر من مرة، من دون ندم. العام 1989 بعد اغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوض، حين عرضت عليه دمشق دعم انتخابه مقابل الاتفاق مسبقاً معه على إخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا، الذي تمترس فيه طلباً للرئاسة، عبر الاستعانة بالجيش السوري، فضل جان عبيد التسوية مع عون وترك الجيش اللبناني يتولى الأمر، من دون دماء، فاستُبعد عن الرئاسة. المرة الثانية كانت في العام 2004 قبل أشهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود. كان الرئيس السوري بشار الأسد يرفض مفاتحته من قبل أي كان في إسم الرئيس الجديد. وحين سأله الرئيس الإيراني محمد خاتمي عن حظوظ جان عبيد، الذي كان أعجب بثقافته وسعة أفقه، أجاب الأسد بأن المرحلة قد تتطلب شخصاً “مضموناً”، يشبه الرئيس إميل لحود، الذي جرى التمديد له لاحقاً 3 سنوات، ما استدرج القرار الدولي الرقم 1559 الذي نص على انسحاب القوات الأجنبية من لبنان.
ومع أن تسوية الدوحة والقرار الإقليمي جاءا بالعماد ميشال سليمان رئيساً فإن جان عبيد كان مقتنعاً بأن المرحلة كانت تتطلب رجلاً عسكرياً.
القناعة نفسها حكمت توقعاته للعام 2014 بعد انتهاء ولاية سليمان التي أعقبها فراغ رئاسي دام سنتين وزهاء 5 أشهر: إذا كانت المرحلة التالية هي امتداد للصراع في المنطقة، وطابعها أمني وعسكري، يَثبُتُ خيار “حزب الله” وإيران على الجنرال عون، وإذا كانت مرحلة تسويات سياسية تكون حظوظه الأقرب. خوض الحزب الحرب في سوريا وسائر الميادين، تطلب مجيء الجنرال.
لم يمنع ذلك ملك الكلام الذي يعرف عون منذ كان برتبة ملازم يخدم في منطقة الشمال، فانعقدت معه علاقة ترفع الكلفة، من مخاطبته قائلاً: “لا يحق لك باسم المرشح الأقوى في الطائفة أن تصادرها والبلد معها”. لطالما اعترف عون بأنه على رغم اختلاف جان عبيد معه، “هو يصارحني من باب النصح”. مما سبق أن قاله لعون: لماذا تطلب المستحيل، فتبدو مهزوماً حين تقبل بالمعقول؟ قبل إصابته بكورونا بأيام زاره في القصر لينتقد سلوكه حيال تأليف الحكومة: ماذا تفعل بالبلد؟ أين موقع الرئيس الحكَم والجامع لكل الفرقاء؟ كرر الرئيس هجومه على سعد الحريري فاكتفى محدثه بالقول أنا أحكي معك عنك أنت، وليس عن الحريري…