IMLebanon

حزب جان عبيد: «البَقْوة» شعارنا!

السياسيّ هو غير المصرفي والعسكري والمقاول ومجرم الحرب ورئيس البلدية ورجل الأعمال وورثة الأحزاب والطوائف والمناطق. السياسة مهنة لم تعد رائجة منذ سنوات، إلا أن التدقيق في ظاهرة جان عبيد يكشف أن حزبها عابر للطوائف والأحزاب. بعيداً عن الشارع، هو أوسع من غالبية الأحزاب الضيقة القائمة

في بهو إحدى البنايات القديمة في سن الفيل، لن يسألك الناطور المتكئ على الطاولة أمامه عن وجهتك. لكنك ستسأل نفسك، زيارة تلو الأخرى، عمّا إذا كان المصعد المتصدع سيوصلك إلى الطبقة الرابعة أو سيتوقف بين طبقتين. السيناريو نفسه يتكرر: تفتح صونيا ــــ التي سبق أن أيقظتك قبل «طلوع الضوء» لتذكيرك بالموعد ــــ الباب، وتقودك إلى غرفة جانبية تتكدس فيها أعداد قديمة من مجلة الشراع. تغلق عليك الباب ريثما يخرج الضيف الآخر، فلا تعرف من سبقك ومن سيليك.

قد يكون السفير الإيراني من كان يجلس قبلك على الصوفا التي يشير لك الوزير جان عبيد للجلوس عليها، أو الوزير سجعان قزي أو زميله ميشال فرعون أو غيرهم كثيرون. تحاول التدقيق في الكرسي محاولاً أن «تحزر» ما إذا كانت هذه «الطعجة» على الصوفا من آثار الوزير نهاد المشنوق أو زميله رشيد درباس أو ربما وئام وهاب. تتخيل النائب عاصم قانصوه مغادراً من الباب قبل أن يدلف من الباب نفسه زميله محمد كبارة. «من العادات» في مكتب عبيد أن يكون هناك دائماً سياسيّ ومن ثم نقيضه في الساعة التالية. يقطع عبيد حبل الخيالات بإخراج مسبحة من جارور لا تنضب مسابحه، مستفيضاً في مداعبة حباتها ومحذراً من رفضها لأن الهوة ساحقة بين المسبحة والرشوة. لا يكشف عن مصدر مسابحه، أما العسل فيحمله إليه تاجر أوزبكستاني أنسته صداقته بعبيد أصول التجارة. فور جلوسه يبادر إلى سؤال زائره عن آخر الأخبار، مستوعباً هوى ضيفه ليعيد بسرعة صياغة أفكاره بحيث يصل إلى الهدف الذي يريده انطلاقاً مما قاله الضيف.

المرشح الأول

للرئاسة عند كثيرين والثاني عند كل المجبورين بزعمائهم

يحرص على فتح واحدة من علب الشوكولا المكدسة على الطاولة وتحتها كل عشر دقائق لتنشيط ذهن زائره بحبة، فيما تتحول ضيافة الشوكولا إلى فستق حلبي وبندورة في منزله في سهيلة كسروان. علماً أن شروط الدخول إلى المنزل والمكتب هي نفسها: المعلومات لنفسك، لا للنشر أو التداول. الشرط المتعارض مع حسّ الصحافة يمثل الخطوة الأولى في صياغة علاقة مخالفة لما هو سائد بين الصحافيين والسياسيين أو بين السياسيين أنفسهم، فعبيد لا يتطلع إلى أن يكون مصدر معلومة أو بطل قصة.

البداية من وظيفة جان عبيد: في ظل غزوة رجال المال والأعمال للمسرح السياسي، بات يندر أن تجد سياسياً يجد في السياسة هدفاً في حد ذاته، لا مجرد وسيلة لتطوير أعماله الخاصة. حين يتحدث عن خروج الرئيس فؤاد شهاب فقيراً من السلطة، أو عن تقشف الرئيس الياس سركيس، يقول الكثير من دون أن يصل بمقارنته إلى أيامنا الحالية. رجل السياسة لا يجد لزوماً للتذكير، كل بضع دقائق، بمسيرته الطويلة كما يفعل من يعرضون شهاداتهم العلمية على الجدران. أما لقاءاته بالرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وكل رؤساء الجمهورية السابقين ومؤسسي حزب الكتائب بيار الجميّل والحزب التقدمي كمال جنبلاط وغيرهم فلا تستخدم لعرض العضلات، سواء مباشرة أو عبر مذكرات. ينكبّ صباحاً على قراءة الصحف لساعتين أو أكثر بدل أن يضع اسمه على محرك البحث الإلكتروني ليقرأ ما كتب عنه. والسياسيّ لا يقفل أبوابه أو يكتفي بمعارفه: غالبية السياسيين يظنون أن علاقتهم بأحد الزعماء «بتكفّي وبتوفّي». أما علاقة عبيد ببعض وزراء الخارجية العرب فلم تحل دون سعيه إلى توطيد علاقته بسفراء هؤلاء في بيروت وبالملحقين الثقافيين والعسكريين، وصولاً إلى الموظفين الذين يستقبلون طلبات التأشيرات. علاقته بالنائب وليد جنبلاط لا تحول دون توطيدها بغالبية وزراء جنبلاط ونوابه ومسؤولين حزبيين يلتقيهم ويستمع لهم باهتمام أكثر مما يفعل جنبلاط نفسه. الأمر نفسه يسري على الأمليين والمستقبليين والعونيين وغيرهم. فور معرفته أن مسؤولاً قواتياً، مثلاً، أو أي ناشط سياسي يتحدث عنه بالسوء، يبادر إلى مهاتفته ودعوته إلى فنجان قهوة لمناقشته في وجهة نظره. وهو لا يكتفي بعلاقاته الوطيدة برؤساء تحرير الصحف مثلاً. فلا تلمع عبارة في مقال إلا وتهاتف صونيا كاتبها لاستدعائه إلى لقاء تعارف، يتحول موعداً فصلياً فشهرياً وأسبوعياً، إذا وجد الصحافي حاجة لذلك. هكذا يخرج ستينيّ من المكتب، فيما ينتظر عشريني في الغرفة الجانبية. وفي النتيجة يتقاطع في مكتب سن الفيل كمّ هائل من الأخبار. ويعاد تعريف اللقاء السياسي كنقاش غنيّ بالمعلومات والتقاطعات ومحاولة لجمع قطع البازل ومحاولة تركيبها، بدل أن يكون علكاً مملاً للمواقف ومجرد تشاطر. أن تشعر برأسك ممتلئاً (بدل بطنك) عند الخروج من مكتب سياسيّ لم يعد أمراً سهلاً.

«الاجتماعات الحزبية» تبدأ هنا من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً. بين عشرة وعشرين ضيفاً يومياً، على مدار 365 يوماً في السنة. أما وصفها بالحزبية فلأن كل من يطلع على علاقة عبيد بضيوفه المواظبين يدرك أن الصداقة تتحول إلى عصب أقرب إلى الحزبية من أي شيء آخر. بين أربعين وخمسين نائباً ومسؤولاً حزبياً كانوا مجرد ناشطين سياسيين عندما أصرّ عبيد على أن يوصلهم سائقه إلى الإكليل بسيارته. وهو، منذ عقدين أو أكثر، لا يزال يجلسهم على الصوفا نفسها كل بضعة أسابيع ليسألهم عن أحوالهم قبل أن يسألوه عن الظروف السياسية، مزاحماً زعماءهم ومنتزعاً ما هو أهم من الولاء السياسي، ليغدو ــــ بحكم علاقته الشخصية الوطيدة بغالبية الطبقة السياسية ــــ المرشح الأول لرئاسة الجمهورية عند كثيرين والمرشح العلني الثاني عند كل المجبورين بزعيمهم كمرشح أول.

«من العادات» في مكتب عبيد أن يزوره سياسيّ ومن ثم نقيضه

التدقيق في ترشيح عبيد يبيّن أنه ليس فقط مرشح نبيه بري ووليد جنبلاط وفؤاد السنيورة. باستثناء الوزير جبران باسيل، لا يكاد يوجد نائب أو مسؤول عوني في التيار الوطني الحر لا يتمنى وصول عبيد إلى الرئاسة الأولى في حال تعذُّر وصول الجنرال. الأمر نفسه ينطبق على المردة والكتائب. انقطاع علاقته بقصر المهاجرين إثر سير الرئيس بشار الأسد في التمديد للرئيس إميل لحود رغم وعده له سابقاً بانتخابه رئيساً بعد انتهاء ولاية لحود، لم يحل دون حفاظه على علاقة وطيدة برئيس الحزب السوري القومي النائب أسعد حردان، والوزير السابق وئام وهاب والنائب عاصم قانصوه الذي ينسب إلى عبيد الجزء الأكبر من الظرافة التي يتسم بها. فقد دأب نائب طرابلس السابق، طوال ثلاثة عقود، على حبك نكتة تلو الأخرى ونسبها إلى نائب البعث الذي كان يسرّ بها حين يلقى التفاعل الإيجابي معها. ولعل نقطة القوة الرئيسية لهذا الحزب ــــ حزب جان عبيد ــــ تكمن في سرية الاجتماعات وانعدام المؤتمرات الصحافية من جهة، وعدم تقدير كثيرين لحجمه الحقيقي من جهة أخرى فيتجاهلونه بالكامل.

شعار عبيد الرئيسي: «البقوة»، وهي كلمة يعرفها أهل القرى. حين كان صحافي «الصياد» يوطد علاقته بتلامذته في تلك الدار الصحافية، لم يكن يفكر في تبوئهم لاحقاً مواقع المسؤولية في غالبية وسائل الإعلام، ليزاحم بفضل «بَقْوَته» و»بَقْوَتهم» من يملكون مصارف توفر قروضاً بفوائد مخفضة لوسائل الإعلام. حتى صراحة رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية تنكمش حين يصل الأمر إلى الزغرتاوي الآخر. ماذا يسعه القول عمن اختلف والده مع جده الرئيس سليمان فرنجية حين زج بعبيد في السجن؟ حين احتج عبيد على مساواة المجرم بالمقاتل في اتفاق الطائف، رافضاً الاجتياح العسكري لقصر بعبدا، لم يكن يحسب حساب الانتخابات الرئاسية القريبة، وإنما «بَقْوَته» للعماد ميشال عون الذي كان يتناول الكبّة ملازماً أول من يدي والدة عبيد في الشمال. وهو لم يكن يفكر في حاجته إلى موافقة عون على انتخابه رئيساً حين رفض، كوزير خارجية، قرار مدعي عام التمييز يومها عدنان عضوم عدم تجديد جواز سفر الجنرال. تماماً كما لم يفكر بتداعيات الذهاب إلى الأقاسي السورية لتقديم العزاء بوزير الداخلية السوري غازي كنعان غداة «انتحاره» لاعتقاده أن «البَقْوة» تستدعي ذلك. سحر «البَقْوة» هذه بدا تأثيره واضحاً على الناخبين الطرابلسيين حين أغدقوا عليه الأصوات فكاد يخترق، منفرداً، لائحة تيار المستقبل ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي عام 2009. وهذا يُظهر – مرة جديدة – أن بين الناخبين والمرشحين ما هو أقوى من الخطاب الغرائزي وأفعل من المال السياسي.

قبل 15 عاماً، لم يكن أحد يعتقد أن نهاد المشنوق سيصبح يوماً ما وزيراً للداخلية يتقدم، بعلاقته بالسعودية، على كل الآخرين في تيار المستقبل، حين اعترض عبيد بشدة – وحده تقريباً – على القرار السوريّ بنفي المشنوق. أياً يكن الغزل الذي يسمعه وزير الداخلية اليوم، فهو يعلم أن أحداً غير عبيد لم يسأل عنه في الأيام الصعبة. تماماً كما يعلم الرئيس فؤاد السنيورة أن ما من أحد تصدى في مجلس الوزراء لمحاولة الرئيس إميل لحود، في مطلع عهده، تقديم السنيورة كبش فداء للمرحلة الحريرية السابقة غير عبيد نفسه. علماً بأن كثيرين لا يبادلون عبيد «بَقْوته». فمن سكنوا شقته الباريسية سنوات بعد هربهم من بيروت، مثلاً، لم يكبدوا أنفسهم عناء الوقوف على خاطره حين عرض الرئيس سعد الحريري عليهم كرسيه النيابي. غير أن «البَقْوة» تتيح لعبيد تقدم غيره في الوقوف على عتبة القصر الجمهوري، رغم أنه لا يقود جيشاً يضم مديريتي استخبارات وتوجيه، ولم يرث طائفة أو منطقة، ولم يتحول إلى «قوي في طائفته» بعد قتل ثلث أبنائها وتسببه بمقتل ثلث آخر. ليس أمراً عادياً، في هذا البلد، أن يتألف برنامجك الرئاسي من كلمة واحدة: الصداقات أو «البَقْوة».

في منزل السهيلة، يقدم عبيد درساً مجانياً لكل من يتناول الطعام على مائدته حين ينادي «أم محمود» لشكرها على كل صحن أعدّته، فيتورّد خدّا الحاجة العكارية كأنها نالت علاوة. ولا يلبث عبيد يذكّر بأن الله طلب من الخلق أن يشكروه، فكيف الحال بالناس العاديين.

يبقى جواب السؤال الأكيد عن حظوظ جان عبيد الرئاسية. لا شك في أن الرجل يتقدم غيره من المرشحين التوافقيين بحكم عدم وجود فيتو من العماد ميشال عون عليه. إلا أن الرئيس التوافقي يفترض أن يكون قادراً على زيارة دمشق والرياض. عبيد يزور الرياض باستمرار، إلا أن خطه إلى الشام لم يعد سالكاً منذ بضع سنوات، ولا أحد قادر جدياً على إعادة المياه بين القرداحة وجبل تربل إلى مجاريها غير الوزير سليمان فرنجية. وعليه، طالما يعجز عبيد وغيره عن زيارة الرياض قبل الظهر ودمشق بعده، لن يكون هناك رئيس.