IMLebanon

جان عبيد الأقوى.. في صمته

يُظلم جان عبيد حين تُخرِجه «تغريدة» سعودية من الظلّ إلى الضوء. «الهامشيون» في اللعبة الرئاسية سيقتنعون بذلك فعلاً، وكأن هناك من نَفَض الغبار عنه. الخبراء في دهاليزها يدركون أن عبيد كلما أقلّ من الكلام والحضور والظهور، كان «لمّاعا» أكثر على حلبة الرئاسة بمرشّحيها.. واحتمالاتها.

تسنّى لمن شارك في العيد الوطني السعودي قبل أسابيع أن يرصد لقاء مصافحة بين عبيد والقائم بالأعمال السعودي وليد البخاري. بدا المشهد أقرب الى لقاء تعارف ودّي انتهى بصورة التقطت لهما بناء على طلب البخاري.

قبل ذلك كان عبيد الغائب الحاضر إلى مائدة السفير السعودي علي عوض العسيري في أيار الماضي. تلك المائدة التي «جذبت» الكلّ باستثناء سليمان فرنجية وجان عبيد. الأول، أوفد ابنه طوني ممثلا له، الثاني، اكتفى ببيان في اليوم التالي تحدّث فيه عن «سبب قاهر» حال دون تلبية الدعوة، واصفا خطاب العسيري بـ «مهماز لضمائر المسؤولين وقدوة لمسؤوليتهم»، وبأن كلمته «تتميّز عمّا يمارسه العديد من الساسة وأولي الشأن تجاه بعضهم بعضا وتجاه وطنهم».

عتب السفير السعودي يومها على عبيد كان على «قدّ المحبة». عارفو الرجل يقرأون في قراره عدم الرغبة في إحراج المضيف «فوجود عبيد إلى الطاولة الرئيسية مع الأقطاب الأربعة ورؤساء الحكومات سيكون خرقا لبروتوكول لا يستحقه، وجلوسه في مكان آخر سيجعله في موقع لا يستحقه»!

هذه ربما صورة جان عبيد على حقيقته. «المرشح الدائم» للرئاسة، عابر الطوائف والمذاهب، يحسب كل خطوة وكل نَفَس وكل كلمة. يحدث ذلك في مسألة الرئاسة كما في علاقاته واستقبالاته و «تمدّده» السياسي.

كاره المنابر والخطابات الجيّاشة والاستهلاكية هو قارئ نهم للكتب المقدّسة «ليتثقّف وليس للصلاة»، وعاشق لأقوال الإمام علي وللأحاديث النبوية الشريفة ونهج البلاغة والقرآن والاناجيل الاربعة الى التوراة…

يمتلك ذاكرة فيل، وفق عارفيه، تلهمه أكثر في استيعاب وتحليل كل ما يحيط به. هنا تصبح الإسقاطات ضرورية من الماضي الى الحاضر.

ليس بالـ «بتغريدات» وحدها تحيا الرئاسة، وليس أيضا بمآدب الطعام والاحتفالات والأعياد والتفاهمات الظرفية. من يقرأ في أفكار جان عبيد ورؤيته للاحداث والتطوّرات يسلّم بقناعته بصعوبة الحسم الرئاسي، تحديدا لمصلحة اسماء توحي بـ «المحاور»، وسط حالة الغليان الاقليمي.

الرجل قابع في منطقة الانتظار، كغيره تماما، لكن من دون جلبة ولا ضوضاء. سُحِبت ملعقة الرئاسة من فمه مرارا: مرّة بعد رفضه الخيار العسكري لإزاحة ميشال عون، ثم إثر التمديد للرئيس اميل لحود بعدما وُعد بالرئاسة بتوافق سوري فرنسي، وقبل خلافه مع غازي كنعان على أبواب نهاية ولاية الرئيس الياس الهراوي.

تضارب الخيارات بين عون وفرنجية قد يدفع الجميع لركوب موجة «المرشح الثالث» لاحقا. عبيد واحد من هؤلاء، لكنه لا يبادر ولن….

يجلس في مكتبه القديم في حرش تابت يستقبل ويودّع. يقوم ببعض الزيارات البعيدة عن الاضواء. إما أن تأتي الفرصة أو لا تأتي الفرصة. «لن أطلب، ولن أدخل من النوافذ أو من تحت الابواب».

صديق ميشال عون وكاتم أسراره، يتجرّأ على مواجهة «الجنرال» بحقائق يستحيل لغيره ممن يجالسه أن يصارحه بها، إما خوفا وإما تزلّفا. يقول عارفو عبيد ان الاخير لا يتوانى عن استفزاز «الجنرال» ليس فقط بسبب شفافيته بل لأنه لا يستطيع ان يتحايل على التاريخ أو يتعامى عن الحاضر.

من وقوفه بوجه حافظ الاسد رفضا لاقتحام قصر بعبدا «لأن الاسرائيلي لم يدخل القصر، فكيف للجيش السوري ان يدخله»، وقوله لسعود الفيصل إبان مفاوضات الطائف «أنا مع المقاتل وليس القاتل» رافضا المساواة بينهما، حتى وقوفه التام في المنطقة الرمادية إفساحا في المجال لإعطاء كل الفرص الرئاسية لصديقه «الجنرال»، يتصرّف عبيد بمنطق صاحب «بَقوة» مع عون.

علاقات سليمان فرنجية مع السعودية ومع آل الحريري ونبيه بري ووليد جنبلاط ليست أهمّ أبدا من علاقة عبيد مع كل هؤلاء، لكن مع ذلك بقي على الحياد ولم يشاكس. سياسة استيعابية لطموحات عون لم تعفه يوما من تقديم النصائح لمن وُصف بالـ «بالرجل الذي لا يمكن السيطرة عليه».

نَصحه سابقا، يقول مقرّبون من عون، ليلة اغتيال رينيه معوض بتسليم اميل لحود «كي لا تسلّم البلد لاحقا لحافظ الاسد وحكمت الشهابي لأنهم سيدخلون الى بعبدا»، واليوم لا يتوانى عن مصارحته بالكثير، من حقيقة القطبة التي تمنع الحريري من مغادرة دائرة التردّد، الى ضرورة عدم تحميل رئيس «تيار المستقبل» ما لا قدرة له على تحمّله، وآفاق التفاهم مع سمير جعجع وموقفه من شرعية مجلس النواب وصولا الى شؤون أهل البيت…

صداقة راسخة مع عون لا تضاهيها سوى علاقته الثابتة مع نبيه بري. مع سعد الحريري معايدات بالمناسبات، ومع وليد جنبلاط أحاديث هاتفية لا تخلو من النكات، وخطوط مفتوحة مع أمين الجميل وفؤاد السنيورة الذي يحفظ جَميله بالدفاع عنه من «محرقة» اميل لحود، و «لينك» دائم مع «حزب الله»، وجمود على خط معراب ما دام ليست هناك دعوة صريحة من جانب سمير جعجع.

أما سوريا، فالعارفون يقولونها كما هي. بعد التمديد للحود نَبت عشب العتب بين جان عبيد والرئيس بشار الاسد وتوقفت الزيارات، لكن الوافدين من قصر المهاجرين كانوا يقرّون دوما بـ «الظلم» الذي لحق بعبيد.

المحيطون بجان عبيد ينظرون الى ما هو أبعد من هذه المشهدية: الوزير الأسبق لا يقود حزبا، وليس صاحب كتلة نيابية، ولا يتحلّق حوله أصحاب رؤوس الاموال، ولا يزخّم علاقاته مع مالكي وسائل الاعلام ليكون نجما على شاشاتها…

هو مجرّد «فرصة» ببرنامج رئاسي يشبه نزاهة فؤاد شهاب وتقشّف الياس سركيس، و «سلّة» من الصداقات والعلاقات الخارجية، والاهمّ قناعته بأن ليس الأقوى في طائفته فقط من «تُحلّل» له كرسيّ بعبدا، وإلا لما كان بشاره الخوري وفؤاد شهاب وكميل شمعون وشارل حلو وسيلمان فرنجية رؤساء..