قبل أيام على زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان لبيروت الثلاثاء المقبل، تمنّت مراجع ديبلوماسية إعفاءها من أي توقعات محتملة. فالزائر الذي طال انتظاره جالَ على معظم العواصم المنغمسة في الأزمة اللبنانية، قبل ان يحدّد موعده الجديد، وسط معلومات شحيحة عمّا حققه، بعدما تعدّدت النكسات التي أصابت المبادرات الفرنسية قبل تفجير مرفأ بيروت و»طوفان الأقصى» وما بينهما وبعدهما من أحداث، فاستحق بذلك لقب «العنيد» الذي يصرّ على ضرب رأسه بالحائط اللبناني للمرّة السادسة. وعليه، ما الذي يقود إلى هذه القراءة؟
منذ سمّى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لودريان مبعوثاً خاصاً إلى لبنان في 8 حزيران 2020، بُنيت السيناريوهات المتعددة تأسيساً على ما يمكن ان تحققه القدرات الفرنسية في مرحلة تعيش فيها البلاد والمنطقة اسوأ الأزمات المالية والنقدية، على وقع الأزمة السورية وما رافقها من تداعيات على الوطن الصغير، وصولاً الى ما شهدته المنطقة من أحداث جسيمة لم تعرفها من قبل، وخصوصاً منذ السابع من تشرين الأول الماضي، وما تركته من تردّدات لفّت المنطقة من زواياها الاربع الممتدة ما بين مضيق هرمز وباب المندب وفي العمقين السوري والعراقي، امتداداً الى طهران، بما فيها انعكاساتها التي تجلّت على اكثر من بؤرة توتر في العالم، يخوض فيها المحوران الدوليان نزاعاً جُنّدت له القدرات العسكرية والاقتصادية والديبلوماسية، في موازاة ما تسبّبت به الحرب الروسية على أوكرانيا والتوتر في بحر الصين وكوريا الشمالية.
لم تكن هذه القراءة الشاملة للأزمات العالمية والإقليمية سوى إحاطة سريعة بالأجواء التي القت بظلالها على لبنان منذ سنوات عدة، بعدما تشابكت القضايا الداخلية وتعقّدت قياساً على حجم التطورات الكبرى في المنطقة. وهو ما يشكّل مقدّمة للانتقال إلى القاء الضوء على المهمّة التي يقوم بها لودريان منذ زيارته الاولى الى بيروت في 23 و24 تموز 2020، بحيث لم يكن هناك اي استحقاق دستوري او سياسي بارز سوى انّ الازمة المالية والنقدية قد تفاقمت وتناسلت بعد انتفاضة 17 تشرين 2019، فجاء إلى بيروت ناصحاً اركان المنظومة بـ«إنجاز الإصلاحات» ومطمئناً إلى أنّ مفاعيل مؤتمر «سيدر واحد» لا تزال قائمة ويمكن تحريكها بالتوازي مع ما التزمته الحكومة في حينه من إصلاحات، مجدّداً تأكيد «وقوف فرنسا الى جانب لبنان ومساعدته».
وما أن انطلقت مهمّة لودريان السياسية والادارية حتى اصطدمت بحادث جلل تجلّى بتفجير مرفأ بيروت في 4 آب من ذلك العام، الذي جاء بالرئيس الفرنسي شخصياً الى بيروت بعد يومين على النكبة، إلى جانب عشرات الوفود الدولية، لمواكبة ما تركه التفجير من ندوب اصابت لبنان وفرضت تدخّلاً دولياً لإغاثة ابنائه ومساعدتهم على تجاوز ما تسبّب به، إلى ان جاءت موجة «كورونا» وبما تسببت به من إقفال دولي وإطلاق حملات دعم دولية للبنان، بقي الفرنسيون في مقدمها وخصوصاً على مستوى إعادة إعمار المؤسسات الاستشفائية لمواجهة الجائحة الصحية، والمؤسسات التربوية، في موازاة ورشة دولية أُطلقت تحت عناوين شتى من دون التراجع عن المناداة بضرورة دفع اللبنانيين إلى إجراء الاصلاحات المطلوبة دون جدوى.
وإلى هذه الملاحظة، يبدو ملزماً عند الحديث عن مهمّة لودريان الجديدة التوقف عند بقية التفاصيل التي ميّزت الدور الفرنسي، فإلى جانب جهود «فريق الأزمة» الخاص بلبنان في قصر الاليزيه، أطلقت باريس في 10 شباط 2023 عمل اللجنة «الخماسية» لمواكبة الوضع في لبنان وحضّ اركان الحكم على إنجاز الاستحقاق الدستوري بانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، وهي خطوة أدّت الى حلّ فريق الأزمة الفرنسية وتجديد تكليف لودريان المهمّة التنسيقية بين باريس وعواصم الدول الاربع الاخرى.
وبعدها لم تغب باريس عن اجتماعات «الخماسية» التي التأم أولها بعد تشكيلها في الاول من تموز 2023، قبل ان تكرّ سبحتها بين مقار السفراء الخمسة، فكان لقاء السفارة السعودية في 25 كانون الثاني 2024 في محاولة سُمّيت لـ«رفع مستوى التنسيق حول آلية السعي للتقريب بين اللبنانيين، والسعي الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية». كذلك عَقدت اجتماعاً آخر واكبه لودريان في مقر السفارة الفرنسية في 20 شباط 2024 «لإعادة تأكيد عزمهم على تسهيل إنتخاب رئيس ومناقشة الخطوات التالية الواجب إتّخاذها»، كما قال البيان الختامي. ثم كان اللقاء الرابع في ضيافة السفير المصري في 18 نيسان الماضي لتقييم نتائج جولة السفراء الجماعية على عدد من القيادات السياسية والحزبية ورؤساء الكتل النيابية، إلى ان كان اللقاء الخامس في ضيافة السفيرة الاميركية في عوكر في 17 أيار الجاري، والذي اطلق خريطة طريق تدعو اللبنانيين إلى مواجهة الاستحقاق الدستوري قبل نهاية الشهر الجاري بعد مشاورات سريعة تنتهي إلى تحديد جلسة انتخاب الرئيس في دورات متتالية يتوافر لها النصاب القانوني والدستوري ولا تتوقف حتى انتخابه.
وإلى الورشة الداخلية التي عبّرت عنها اجتماعات الخماسية وحركة اعضائها المكوكية الواسعة على المعنيين بالاستحقاق الدستوري، يعود لودريان الى بيروت في زيارته السادسة لها في ظل ضبابية وغموض يلفّان ما ُسمّي «خريطة الطريق» إلى انجازه، ووسط انقسام حاد يعوق التوصل الى الآلية المؤدية لانتخاب الرئيس، ليس لسبب يرتبط بما انتهت إليه اتصالات الخماسية وانما بسبب ربط البعض أي خطوة تؤدي إلى اتفاق لوقف اطلاق النار في قطاع غزة وتثبيت الوضع في الجنوب، وهو ما يؤدي الى الإيحاء بعقم الجهود المبذولة لهذه الغاية، ليس على المستوى الفرنسي فحسب وإنما على مستوى الحراك الذي تشهده قطر والاتصالات التي تقودها الولايات المتحدة الاميركية، في جو يوحي انّها لا تحبذ القيام بأي خطوة قبل التفاهم على وقف النار في الجنوب بعد غزة إن كان ذلك ممكناً، مع التلميح الى انّ اي صيغة حل بالنسبة الى الحدود لا يمكن التوصل إليها قبل انتخاب الرئيس الذي أناط به الدستور مهمّة التفاوض وتوقيع الاتفاقات الدولية، وهو ما يقتضي إعطاء هذه المحطة الأولوية على أي تفاهمات حدودية.
وبناءً على ما تقدّم تبرّر المراجع الديبلوماسية دعوتها الى انتظار وصول لودريان للتثبت من انّه يحمل صيغة جديدة للحل، وهو امر مستبعد وفق المعطيات المتوافرة الى اليوم. وهو ما دفع أحد هذه المراجع الى الاسترسال في الحديث عن عناد لودريان غير المسبوق، وما يمكن ان يحمله من حصيلة جولاته الدولية، وهل في قدرته ان يحقق ما لم تنتجه «الخماسية» حتى اليوم في ظل التجارب السابقة. فلباريس هامش محدود من الحركة، ولكن حضورها على الساحة اللبنانية سواءً غُلّف بالرضا والتنسيق مع بقية اطراف «الخماسية» او لم يحظ بهذا الغطاء، فإنّ الزيارة حاصلة ولا بدّ من مواكبتها، مع الحرص على عدم الإفراط في التفاؤل، لأنّ التمادي بمثل هذا الجو ستكون مفاعليه سلبية على لبنان وهو أمر غير مستحب.