زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السعودية حملت ملامح مرحلة جديدة، ليس على مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين وحسب، بل على إمتداد الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، وصولاً إلى جنوبي وشرق آسيا.
إعادة حرارة التواصل إلى العلاقات التحالفية بين الرياض وواشنطن من شأنها أن تُعيد بعض التوازن إلى ميزان القوى الإقليمي، بعد فترة من رهان الإدارة الديموقراطية في البيت الأبيض على عقد إتفاق جديد حول البرنامج النووي الإيراني، دون الأخذ في الإعتبار مطالب دول المنطقة بالنسبة للحد من التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية، والذي أدى إلى تهديد الأمن القومي لبعض الدول، وإشعال الإضطرابات الداخلية للبعض الآخر.
كما أن الموقف السعودي الصلب، الذي إتخذه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بعدم التجاوب مع طلب زيادة الإنتاج النفطي بعد إندلاع الحرب في اوكرانيا، وذلك رداً على التجاهل الأميركي المتعمد للمصالح السعودية، وموقف إدارة بايدن الملتبس من الحرب في اليمن، وتسرّع الخارجية الأميركية في رفع تنظيم الحوثيين عن لائحة المنظمات الإرهابية، والسكوت عن تعرض المنشآت النفطية والمراكز المدنية للقصف الحوثي، لقد دفع هذا الموقف الإدارة الديموقراطية في البيت الأبيض إلى مراجعة سياستها تجاه المملكة، والتوصل إلى تقييم جديد قضى بإعادة تصويب المعطيات التي أدت إلى التباعد الأخير بين الحليفين التاريخيين، ومعالجة مسببات التذمر السعودي من سياسة إدارة بايدن، الذي جعل من قضية الصحافي جمال الخاشقجي أشبه بقميص عثمان في حملته الإنتخابية، وجاءت الزيارة الرئاسية لتؤكد أهمية إدارة ولي العهد الجريئة لملف العلاقات مع واشنطن، على قاعدة مصالح السعودية أولاً.
ولكن أين لبنان على خريطة القمة السعودية ــ الأميركية؟
لم يكن لبنان قطعاً على لائحة الأولويات في قمة جدة، ولكن البيان المشترك أكد أن وطن الأرز كان حاضراً في المحادثات السعودية ــ الأميركية، من خلال التأكيد على أهمية الحفاظ على الإستقرار في لبنان، وبسط سيادة الدولة على كافة أراضيها، وضرورة إجراء الإصلاحات اللازمة للخروج من أزماته الراهنة، والإستعداد لمساعدة الجيش والقوى الأمنية للقيام بمهمات الحفاظ على الأمن والإستقرار في البلد.
وفي الوقت الذي أبدى فيه الجانبان السعودي والأميركي حرصهما على الإسراع في تشكيل الحكومة العتيدة، يستمر جهابذة السياسة في لبنان في لعبة عض الأصابع، والتصارع على الوزارات الوازنة، والغوص في التفسيرات السفسطائية للصلاحيات الدستورية، في أجواء من التوتر والمقاطعة بين بعبدا والسراي، وكأن أمور البلد تسير بشكل طبيعي، ويملكون ترف التناتش وتضييع الوقت، متجاهلين تداعيات الأزمات والإنهيارات على البلاد والعباد، ومقفلين كل منافذ العبور إلى تشكيل حكومة جديدة.
لقد أكدت المملكة، مرة أخرى، حرصها على مساعدة الشقيق المشاغب، وتقديم الدعم المناسب لإخراجه من واقع أزماته المستفحلة ، وما تسببه من مضاعفات ضاغطة على اللبنانيين، من خلال وضع الملف اللبناني على طاولة المحادثات مع رئيس الدولة الأكبر في العالم، من زاوية تأكيد مسؤولية المجتمع الدولي على مساعدة البلد المنكوب، والعمل على إستعادة عافية إقتصاده، والحفاظ على إستقراره.
ولكن ماذا ينفع إستعداد العالم كله لمساعدة الوطن الصغير، إذا لم يكن حكامه على مستوى المسؤولية الوطنية في العمل على دفن خلافاتهم التقليدية، وتناسي مصالحهم الأنانية والفئوية، والإسراع في إتخاذ الخطوات التي تُعيد الثقة بالدولة اللبنانية وقدرتها على تجاوز الصعوبات والأزمات الراهنة، وتحقيق الإصلاحات التي تفتح أبواب الإنقاذ المنتظر؟
الواقع أن المتغيرات المتسارعة في المنطقة، بل وفي العالم، على إيقاع الحرب المدمرة في اوكرانيا، تفرض على لبنان العمل بجدية على الخروج من النفق الحالي، والإستعداد للتطورات المتوقعة في القريب العاجل، بدءاً من موجبات ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، لضمان الحصول على حق لبنان في البدء في عمليات التلزيم والتنقيب عن النفط والغاز في مياهه الإقليمية في أسرع وقت ممكن، وصولاً إلى تحصين الجبهة الداخلية والتخلص من الإختلالات الحالية في موازين المعادلة الوطنية، بسبب وجود السلاح مع حزب الله، وما يسببه من تصرفات «فائض القوة « في الساحة السياسية، والهيمنة على مفاصل القرار في الدولة.
المشكلة لم تعد مسألة نهاية عهد مشؤوم وتوقع بداية عهد محمود، .. بقدر ما أصبحت أزمة متفاقمة في سوء الإدارة السياسية وما يحيط بها من فشل وفساد أطاح بما تبقى من مقومات الدولة.
فهل ينزل المسؤولون من أبراجهم العاجية، قبل أن تجرفهم تيارات المتغيرات العاصفة في المنطقة؟