رغم ارتفاع منسوب الحماوة وانزلاق الأوضاع إلى حدود حصول مواجهات عسكرية كما حصل في مخيم جنين في الضفة الغربية، الاّ انّه يمكن الاستنتاج بوضوح أنّ ثمة سقفاً محدّداً يضبط التوترات الحاصلة ويمنع تدهور الامور وانفلاتها.
وهو الاستنتاج الواضح لما حصل في جنين وفي جنوب لبنان وايضاً في شماله، حيث سالت الدماء في القرنة السوداء، وهو ما يعني أنّ هنالك تفاهمات تدور في الكواليس، وترسم سقفاً لا يمكن تجاوزه في المرحلة الراهنة. ففي اسرائيل، سعى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لتحسين موقعه الداخلي، بعد اشهر صعبة فَقَد خلالها التأييد الشعبي الذي حاز عليه في الانتخابات الاخيرة.
وبعد كسب بعض النقاط لمصلحته في ملفاته القضائية المفتوحة، حاول استعادة زمام المبادرة من خلال عملية جنين، بهدف استعادة زمام المبادرة، بعد الظهور الضعيف له على مسرح السياسة الاسرائيلية. وكذلك سعى للمحافظة على تماسك التحالف الحكومي الهجين، والذي شهد تشققات عدة، وإعادة ترميم صورته كرئيس حكومة قوي.
لكن العملية العسكرية، والتي افتقدت إلى الاستراتيجية السياسية الواضحة، كانت محكومة بسقف زمني قصير حدّدته واشنطن مسبقاً. والعملية العسكرية التي فشلت في تحقيق أهدافها المرجوة، كان جرى التخطيط لها منذ نحو سنة، واتُخذ القرار بتنفيذها قبل اسبوع من بدئها، وتمّ وضع الادارة الاميركية في اجوائها. لكن واشنطن، ووفق ما تنقله اوساط ديبلوماسية غربية مطلعة، اشترطت إنهاء العملية في غضون يومين كحدّ اقصى، بذريعة انّ إطالة أمدها ستؤدي حكماً الى اشتعال جبهات اخرى وانزلاق الامور الى المجهول، وهو ما سيصبّ في غير مصلحة اسرائيل، بسبب الظروف التي يمرّ فيها الشرق الاوسط، وهو ما سيهدّد علاقات اسرائيل مع الدول العربية التي طبّعت العلاقات معها أخيراً.
لذلك، بقيت المواجهات محصورة بجنين طوال اليومين الأولين، ولم تمتد الى أنحاء اخرى من الضفة الغربية او إلى قطاع غزة. لكن في اليوم الثالث، أُطلقت 5 صواريخ من غزة كمؤشر إلى امكانية فتح الجبهة هناك.
في المحصّلة، خرج نتنياهو من معركة جنين خائباً، وهو الذي يحرص على عدم إجهاض فرصة إمكانية توجيه البيت الابيض دعوة له لزيارة واشنطن في الاسابيع المقبلة، بعد تجاهل اميركي له منذ فوزه برئاسة الحكومة مرة جديدة. وكما في جنين كذلك في جنوب لبنان، فشل نتنياهو في إزالة الخيمتين، ولم يستطع ترجمة تهديداته، لإدراكه انّ الظروف والحسابات لا تعمل لمصلحته. ولمس بوضوح انّه مقيّد اليدين، وانّ المرحلة لا تتناسب مع «هوس» الائتلاف الحكومي اليميني المتطرّف، وإلّا فإنّه يغامر بمزيد من الخسائر السياسية. فإدارة بايدن تعمل على ترتيب تسويات سياسية عريضة تعيد رسم الخريطة السياسية للشرق الاوسط. وقد ادّى حرص الإدارة الاميركية على إبقاء ما يدور في الكواليس من مفاوضات حسّاسة، إلى إزاحة المسؤول عن ملف ايران في الإدارة الاميركية روب مالي، بعدما قيل إنّه تسبّب بتسريب معلومات حول الترتيبات الجارية مع ايران، وهو ما استفاد منه نتنياهو وعمل على توظيفه لمصلحته.
وإعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة في الشرق الأوسط، دفعت بتركيا الى طي صفحة خلافاتها الحادّة مع مصر، وبالتالي إلى استعادة العلاقات الطبيعية معها، حيث يصبح الساحل الذي يفصل بينهما واقعاً تحت تأثيرهما.
ولذلك، عملت اسرائيل على استعادة علاقاتها مع تركيا ايضاً، في وقت يشهد شمال سوريا بداية مفاوضات معقّدة، تمهّد لحملة عسكرية على إدلب. صحيح انّ هذه المفاوضات ستأخذ وقتاً طويلاً بعض الشيء ويمتد لأشهر عدة وربما لسنة، لكن البازار فُتح، وتشارك فيه واشنطن، وسيتأثر به لبنان إيجاباً في أزمته الرئاسية. فالحملة العسكرية التي سيتولّاها الجيش السوري تستلزم ضمان الإمساك بالخاصرة اللبنانية الرخوة، حيث أقامت المجموعات المتطرّفة طوال السنوات الماضية روابط مع بعض المجموعات الموجودة في شمال لبنان، وبالتالي فإنّ من البديهي الاستنتاج بأنّ ترك الأزمة مفتوحة في لبنان كما هو حاصل اليوم، يفتح الباب أمام احتمال تفاقم الأوضاع الحياتية،
كما سيفتح ابواب المخاطر عندما تبدأ المعركة العسكرية. وهو ما يعني وجوب إغلاق الملف اللبناني ومساعدة الدولة اللبنانية على إحكام هيبتها الأمنية والعسكرية لتأمين الفصل المطلوب ووقف التدخّل الحاصل منذ سنوات الحرب في سوريا، خصوصاً مع وجود خلايا نائمة، وقدوم يومي لسوريين عن طريق المعابر غير الشرعية.
من هنا ايضاً تركّزت الاسئلة حول ما اذا كان هنالك من رسائل سياسية وقطب مخفية في حادثة القرنة السوداء، ام انّ المسألة وليدة ساعتها في ظل الخلاف القائم. ولأجل ذلك، كان التركيز على منع حصول أي ردود فعل، خصوصاً انّ الخلاف مزمن، وانّ اهالي المنطقة معروفون بعاداتهم الثأرية وعزيمتهم العشائرية. لكن الظروف السياسية تفرض تطويق الوضع ومنع انحداره وانزلاقه، وهو ما تولاه الجيش اللبناني ونجح فيه، رغم صعوبة المهمة وحساسيتها ودقتها.
وحتى الآن، فإنّ التحقيقات لا تُظهر وجود «قطب مخفية»، ما يترك الامور في سياقها الخلافي لا السياسي ـ الامني. ولأنّ المطلوب إبقاء الامور تحت سقف مضبوط في ظلّ المفاوضات المتشعبة الحاصلة في الكواليس وخصوصاً بين الولايات المتحدة الاميركية وايران، كان واضحاً القرار الدولي بعدم المسّ بالدستور اللبناني او الذهاب الى صيغة سياسية جديدة. وانّ المرحلة المقبلة التي من المفترض ان تشهد استقراراً مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، ستبقى تخضع لاتفاق الطائف على رغم الكلام الكثيف الذي ساد صفحات الاعلام حول نية «الثنائي الشيعي» بالذهاب الى صيغة دستورية جديدة، وهو ما اعتُبر بمثابة رسائل سياسية في هذا الاتجاه. الاّ انّ واشنطن أبدت تمسّكها بعدم الذهاب في هذا الاتجاه، وأبدت في الوقت نفسه معارضتها الذهاب الى اي مؤتمر دولي حول لبنان، قيل انّ المبعوث الرئاسي الفرنسي لودريان تطرّق اليه خلال جولته اللبنانية.
والمعارضة الاميركية ارتكزت حول خشيتها من ان يتحوّل هذا المؤتمرعن غايته، ويصبح عنوانه البحث عن تعديلات دستورية. ذلك انّ واشنطن تدرك جيداً أنّ الشرق الاوسط تزداد أهميته بالنسبة لمصالح الصين الاقتصادية والاستراتيجية، وهو ما يستوجب إنجاز التفاهمات المطلوبة، والعمل على اقفال الفجوات الموجودة، خصوصاً انّ باريس باتت تعيش وضعاً حساساً على المستوى الداخلي، سيأخذ من وقت السلطة من اجل معالجته.
وفي آخر الاستطلاعات، ذُكر انّ 53% من الفرنسيين باتوا يشعرون بعدم الأمان، و86% بأنّهم اكثر تهديداً من ذي قبل و27% فقط يثقون بعمل الحكومة على محاربة عمليات السطو والاعتداءات. وهذا ما يدفع للتساؤل حول تأثير ذلك على المبادرة الفرنسية تجاه لبنان، والزخم الذي يستوجب ان يواكبها.