مرضُ فقدان الثقافة يشبه مرض فقدان المناعة، ونحن ببساطة تجاه مجمل قضايانا القُطرية والعربية والدولية أُصبنا بـ»إيدز ثقافي» ولا نريد أن ندرك أنه حتى تكون القدس موقفاً يجب أن تكون ثقافة.
يقول الرئيس نبيه بري: غالبية مواقفنا تتشكّل لأسباب ببغائية، عصبوية، كيانية، لغوية، عرقية، طائفية، مذهبية، بلدية، عشائرية، قبلية، عائلية… الخ. أي مواقف تحصيل حاصل. ويضيف: نحن ننحاز مثلاً للمقاومة، نقف في صفها. نقترب أو نبتعد عنها، نكون حاضنتها الشعبية أو نتشكّل ضدها لأسباب سياسية… مصلحية و… هكذا.
اللاثقافي
على هذه القاعده الثقافية نشير الى أننا لبنانياً أنحزنا في السابق مع التمديد او ضده من دون أن نعرف موقعه في الدستور، انعكاساته الآنية والمستقبلية. ونحن اليوم ننحاز ضد أو مع مرسوم الترقيات أو ندور حوله من دون أن نعرف أنه مخالف أو موافق للدستور! أين يتوافق معه أو يتجاوز عليه وفي أيّ مادة؟ وماذا يعني اصدار مثل ذلك المرسوم في السياسة… في آلية إنتاج وتشكيل النظام؟ هل هذا الامر معناه الذهاب الى الامام؟ هل يعبّر عن إصلاح و تغيير؟
هل يقصد ذلك المرسوم الانقلاب على ما تحقّق في آلية إنتاج النظام السياسي بعد العام 1984 وإعادتنا الى العصر النحاسي أي النظام الرئاسي والانقلاب على النظام البرلماني الديموقراطي؟
وعلى القاعدة نفسها نسأل: تُرى هل لدينا ثقافة ومعرفة بمعنى: النظام، البرلماني، الديموقراطية. وبمعنى هذا التعبير مجتمعاً؟ هل نعرف مَن يفسّر الدستور: السلطة التشريعية؟ القضائية؟ الاستشارية؟ هل لدينا ثقافة مشاركة؟
هل نعرف أو نريد ان نعرف معنى المشاركة؟ الأثمان التي دُفعت (من شهداء، جرحى، معاقين، مشرّدين ودمار) لتحقيق مشاركة جميع المواطنين السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حياة الدولة والمجتمع؟ هل لدينا ثقافة مفردات؟ سيادة، حدود، خط ازرق برّي، خط ابيض بحري، موارد: موارد طبيعية، موارد بشرية؟ ترى هل نعرف معنى الحرية؟ العيش المشترك؟ الحوار؟ الاتفاق؟ الاختلاف؟ الادارة؟ ادارة الاتفاق او الاختلاف؟
وفي السياق نفسه نسأل: هل لدينا ثقافة ومعرفة بالمعاني السامية لـ: الوحدة، الحرية، الاشتراكية؟ ثأر، تحرّر، عروبة؟ ثورة حتى النصر؟ الإتّحاد الاشتراكي؟ معاني الأسماء التي نقف تحتها: فتح، حماس، الجهاد الاسلامي، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وما تفرّع عنها؟ هل لدينا معرفة وثقافة بمعنى: الثورة، السلطة، الدولة، الدخول الى الدولة؟ وقبل ذلك هل لدينا ثقافة ومعرفة بـ: الله جلّ جلاله؟ بالأنبياء صلى الله عليهم وسلّم بالأولياء والحواريّين عليهم السلام؟
الاختلاف نابع من قلّة فهمنا وثقافتنا لمعنى المفردة والمصطلح، وتصديق مَن غشَّنا واخذَنا للاختلاف على ادارة الاقتصاد والامن وأيّهما اولوية قبل الآخر وأيّهما يؤمّن استقرار الآخر ويؤسس لاستقرار النظام العام، ووضَع غشاءً على أعيننا وجَعَلنا لا ننتبه الى أنّ الاساس هو الاتفاق على معنى واحد ونهج ثقافي مُوَحَّد ومُوٓحِّد (كما يشير الى ذلك الامام الصدر أعاده الله) لـ: الوطن، المواطن، المواطنية، العاصمة والحدود. وبناءً على ما تقدّم من اللاثقافي فإننا سنبقى نختلف؟
موجة على الشاطئ
في موضوع القدس أزعم انّ المواقف وردود الأفعال تتلاشى وتنتهي كموجة على الشاطئ لأنها مواقف متحمّسة ونابعة من عصبيات وموروثات وليس عن ثقافة ومعرفة. فمَن تراه يعرف القدس منا ليس من حيث ورودها في القرأن الكريم وليس لأنها موقع كنيسة المهد.
فمَن تعلّم على القدس قرأ عنها وعن موقعها في حياة شعوبنا ومجتمعاتنا وتاريخها والحروب التي اندلعت لأجلها تترسّخ لديه قناعة بأن لا سلام إلّا بتحقيق سلام القدس ورفع الاحتلال عنها وعودتها مركزاً للحجيج اليها وعاصمة لدولة فلسطين.
تُرى مَن منّا يتابع يوميات القدس، القرارات الحكومية الاحتلالية، الاجراءات والأوامر العسكرية، الحفريات اسفل المسجد القدسي الشريف، الاطواق والوحدات الاستيطانية، الاستيلاء على الممتلكات فيها، سرقة الخرائط من خزائن المسجد الاقصى وبيت الشرق؟
مَن يعرف أنّ كل الصراعات والحروب الراهنة الجارية على مساحة الشرق الاوسط تؤدّي عبر كل الطرقات الى القدس وان لا سلام وطنيّاً ( قُطريّاً) وفي الشرق الذي تشتعل الحرائق على مساحته إلّا بسلام القدس.
القدس ثقافة، و ليست مجرد عنوان لهبة آنية أو ماضية رداً على تدنيس شارون للمسجد الاقصى او توقيع الرئيس ترامب قرار نقل سفارة بلاده اليها، او اتّخاذ قرارات استيطانية جديدة، فالمدينة محتلة والاستيطان فيها هو مجرّد استكمال لجريمة الاحتلال.
تاريخ القدس يعود الى الألفية الخامسة قبل الميلاد، هي اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، لم تسلم منذ نشأتها من محاولات احتلالها الى أن وقعت فريسة الاحتلال الاسرائيلي بكاملها عام 1967 وصدرت قرارات دولية عدة بشأن القدس ابرزها رقم 252 الذي اكّد على ضرورة انسحاب إسرائيل من القدس.
واليوم وعلى رغم إدانة مجلس الامن للاستيطان ورفضه لقرار ترامب، تستمرّ إسرائيل في تهويد المدينة في ظل مباركة اميركية وهو الامر الذي لن يمرَّ ببساطة حسب اعتقاد أو تقدير سلطات الاحتلال وبعض أنماط السلطات في الشرق الاوسط وأركان في الادارة الاميركية.
وسيبقى الموقف يشتعل جمعة بعد جمعة وهو كان عنوان «جمعة الغضب» السابعة الاسبوع الماضي، وقد استدرج استعادة الحراك الفلسطيني غير المدني وهو الامر الذي لم تخشَه أو تردعه الاجراءات الاحتلالية إذ عاد الفلسطينيون ليكونوا اقرب الى الثورة من الدولة الوهمية التي «لا تملك ولا تحكم».