IMLebanon

القدس… وعواصم عربية أخرى!

 

على مدى عقود ظل الهتاف الأكثر شهرة لدى الإخوان المسلمين: «على القدس رايحين شهداء بالملايين»، سواء كان المحفل مؤتمراً أو ندوة فقد كان الهتاف دائماً حاضراً. أما في تظاهرات الجماعة واعتصاماتها فالحناجر تردده واللافتات في أيادي عناصرها ترفعه، حتى لو كان المؤتمر عن أوضاع داخلية، أو كانت التظاهرة للاحتجاج على سجن قيادي في الجماعة أو توقيف مجموعة من شبابها، فإن الإخوان يصرون على إعلان رغبتهم بالتوجه إلى القدس وقتال الإسرائيليين، ولو سقط منهم الشهداء بالملايين!!. تحول الهتاف إلى شعار عندما ابتليت المنطقة بعواصف الربيع العربي، وبينما كان المتظاهرون في ميدان التحرير في مصر يرددون «عيش حرية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية» كانت تجمعات الإخوان داخل الميدان تقطع كل شعار وتدخل على أي هتاف وتردد: «على القدس رايحين شهداء بالملايين». ولأن للقدس مكانة دينية لدى المسلمين والأقباط على السواء، ولأن مأساتها ظلت على مدى عقود توجع القلوب، فإن مجرد ذكرها في هتاف أو كتابتها على لافتة يجبر كل الحضور على التجاوب والصياح والصراخ، فيربح الإخوان مؤيدين ومرددين، وتصمت الهتافات الأخرى ليرفع الجميع الشعار ويصرخون: «على القدس رايحين شهداء بالملايين». حتى بعض اليساريين والناصريين وثورجية العلمانية، الذين يفترض أنهم يدركون ألاعيب الإخوان ووسائلهم في كسب المتعاطفين، كانوا يسيرون في ركابهم.

استخدم الإخوان مأساة فلسطين وقضية القدس وأزمات ومعضلات عربية أخرى لخدمة أهداف الجماعة بالقفز على السلطة وإطاحة الأنظمة والحكومات وأخونة الدول والمجتمعات، وكان الناس يسألون حين يسمعون الإخوان يرددون الهتاف ويشاهدون عناصرهم وهم يرفعون اللافتات وحناجرهم تطلق الشعار: وماذا يمنعكم؟ ولماذا لا تذهبون إلى فلسطين؟ وماذا يحول بينكم وبين الوصول إلى القدس والاستشهاد فداء لها؟ لكن المناخ العام والتصرفات الإسرائيلية والسياسات الأميركية، إضافة بالطبع إلى ضعف العرب وقلة حيلتهم، أمور صبّت دائماً في مصلحة الإخوان، وجعلت البعض يصدقهم حين يدعون أن الأنظمة الحاكمة تحول دون فتح الحدود وإفساح المجال لهم لتحرير القدس والذهاب إلى هناك بالملايين.

عموماً، الكائن الإخواني بطبعه لا يلتفت إلى ردود فعل الناس تجاه تصرفاته، أو مبالغاته أو خداعه للآخرين، أو جرائمه في حق وطنه، ويعتقد دائماً أن كل الناس إخوان!! وأن على الآخرين أن يصدقوه حتى لو كان يكذب، وأن يتبعوه حتى لو كان يسير بهم إلى طريق الهلاك، وأن يأتمنوه حتى لو كان يخدعهم!! كل هذا يفسر سخرية الشعوب العربية من تناول الآلة الإعلامية القطرية والقنوات التي تبث من الدوحة وإسطنبول ولندن ونشاط اللجان الإلكترونية الإخوانجية لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والتداعيات التي جرت بعده، فاستخدام القرار لتحريض الشعوب ضد الأنظمة وتحويل الأمر إلى سباب وشتائم وبذاءات تطاول كل من يعارض السياسات القطرية والتصرفات الإخوانجية، أسلوب لم يعد ينطلي على من ذبحهم الربيع العربي وفتت مجتمعاتهم وأسقط عواصمهم واحدة بعد أخرى. اللافت هنا أن الإعلام القطري ما زال يلقن الناس الدروس نفسها ويسير على المنهج نفسه!! معتقداً أن الشعوب لا تدرك أنه أحد أسباب المأساة التي خلفت دماراً وأحدثت الخراب الذي حل بالمنطقة ونزع عن العرب ما تبقى لهم من أنياب وشل قدرتهم على اتخاذ قرار يتجاوز الشجب والإدانة، أو اللطم والبكاء، ليس فقط على القدس، ولكن أيضاً على صنعاء ودمشق وطرابلس وبغداد. لا يمكن هنا إغفال أدوار منظمات إرهابية أخرى خرجت من عباءة الإخوان كـ «داعش» الذي يحمل في سيناء اسم «شهداء بيت المقدس»، ويطلق عليه الإعلام القطري والإخوانجي «تنظيم الدولة في سيناء» والذي لم يضرب في القدس أو غيرها من المدن الفلسطينية وإنما في رفح والعريش وبئر العبد… والواحات!!

ليس لقرار ترامب علاقة بالسياسة وإنما بالتجارة وحسابات الأرباح والخسائر، وهو يعاني أوضاعاً داخلية مأزومة، فوقَّع القرار الذي تفادى ثلاثة رؤساء قبله توقيعه ليربح دعم اللوبي اليهودي مقابل أوضاع مزرية يعانيها الوطن العربي بفعل ربيع صنعته أجهزة أميركية ودعمته قطر وشارك فيه الإخوان وأيدته تركيا وسار على نهجه نشطاء ومغيبون لم يدركوا بعد أنهم، وبمنتهى الجسارة، رسخوا مأساة القدس قبل أن يوقِّع ترامب القرار، وشاركوا، وبمنتهى الإصرار، في سقوط عواصم عربية أخرى، وانخدعوا بالذين هتفوا: «على القدس رايحين شهداء بالملايين» بينما كان هدفهم القاهرة.