Site icon IMLebanon

القدس بين المكانة الإسلاميّة ـ المسيحيّة والعنصرية اليهوديّة

 

في هذه الأيام العصيبة التي يتساقط فيها كبارُ الأمّة على ربى فلسطين، وفي ظلِّ ترهّلٍ عربي وإسلامي مُؤلم، تقف مدينة القدس المبارَكة وأهلها، ومعها فلسطين بمدنها وقراها الطيّبة وبشرها وحجرها وحتى شجرة الزيتون فيها عند منعطفٍ تاريخي، حيث النزاعُ الدموي، بين الحقّ العربي والإسلامي الثابت تاريخياً، وبين محنة تهويدها وطمس هويّتها العربية والإسلامية على يد الحركة الإسرائيلية ـ الأميركية التي تسعى بوقاحة قلّ نظيرها، الى تثبيت الادّعاءات الإسرائيلية في المدينة المقدّسة، من خلال فرض وتثبيت وتوسيع الواقع الاستيطاني في كل مكان وزاوية من أرض القدس الشريف وما حوله، ومن خلال القرار الرئاسي الأميركي الأرعن بنقل السفارة من تل أبيب الى القدس، والذي جاء في ذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور المشؤوم.

فالمعركة الآن هي بين الطفل الفلسطيني المعجزة ومعه الشعب الفلسطيني المبارك من ناحية، وبين قطعان وإرهابيّي الحركة الإسرائيلية ـ الأميركية من ناحية أخرى، والمعركة في حقيقتها، هي معركةُ بيت المقدس بكل جذورها التاريخية وعمقها الديني، وهي حتماً ليست معركة اتفاقات أوسلو ولا مقرّرات شرم الشيخ، ولا حتى تطبيق وتنفيذ محتويات قرارات الأمم المتحدة المتعددة في شأن القضية الفلسطينية..

ولنكن أكثر وضوحاً فالمعركة الآن وستبقى بين حقّ المسلمين ومعهم المسيحيين من ناحية في القدس الشريف، وبين ادّعاءات الإسرائيليين التلمودية بأحقّيتهم بالقدس ومقدّساتها الإسلامية والمسيحية، وقد قال الإرهابي أرييل شارون إثر اقتحامه باحة المسجد الأقصى عام 1990 عندما سأله أحد رجال الإعلام عن حقيقة ما يجرى في المسجد الأقصى: «لا وجود للحرم القدسي في القدس وما يُطلق على المسجد الأقصى هو عبارة عن أوهام عربية وإسلامية لا نريد لأحد أن يصدّقها».

ومن هنا لا بدّ أن نبيّن مكانة بيت المقدس في عقيدتنا الإسلامية، وان نوضح حقيقة العنصرية الإسرائيلية المحتلّة لبيت المقدس، وما حوله، فمدينة القدس ليست كغيرها من عواصم الوطن العربي والعالم الإسلامي وحواضرهما.

لأنها كانت وستبقى موضعَ صلة بين السماء والأرض، وهي التي فتحها وباركها محمد عليه الصلاة والسلام بنفسه، قبل الفتح الفعلي والعملي للمسلمين لها منذ ما يزيد عن ألف وأربعمئة عام في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وذلك عندما أُسريَ بالنبي الكريم من مكة المكرّمة الى بيت المقدس، ومنها عرَج به الى السماوات السبع. وكان الرسول قد أخذ من مسجدها الأقصى قبلته الأولى، فصلّى نحوه المسلمون سبعة عشر شهراً الى أن أمره الله تعالى بالتوجّه الى الكعبة المشرّفة في مكة المكرمة بقوله تعالى: «قد نرى تقلّبَ وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها. فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهَكم شطره».

وللدلالة على مكانة بيت المقدس عند أهل الإسلام وفي السماوات السبع كان قوله تعالى ومنذ الأزل: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير».

والجميع يعلم أنّ المسجد الحرام في قلب مكة المكرّمة والمسجد الأقصى درة بيت المقدس. وليس عبثاً ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى. كما أنه ليس عبثاً أن يكون معراج آخر الأنبياء الى السماوات العلى من قلب بيت المقدس، ألا يوجد للسماء باب آخر غير بيت المقدس ومسجده الأقصى؟

إنها إشارة الى الرباط الإلهي المقدس بين مكة وحرمها وجزيرتها العربية بالقدس الشريف وأقصاه، وبلاد شامها من العريش الى الفرات. ولذلك كان قولُ الرسول للمسلمين: «لا تشدّ الرحال إلّا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى».

فالقضية في حقيقتها ليست قضية اتّفاقات أو قرارات أو مؤتمرات او مبادرات عربية او دولية، وإنما هي قضية عقيدة ووجود وتاريخ وإيمان، ولا يمكن أيٍّ كان أن يغيّر عقيدة وإيمانَ مليار ونصف مليار من المسلمين في شتى بقاع الدنيا..

صحيح أنّ هناك اتّفاقات بين الدول والأنظمة تفرضها الضرورات الأمنية والعسكرية وتوازن القوى، قد تكون مبرَّرة، وقد لا تكون، لكنها حتماً ليست ملزِمة للشعوب وللأجيال المقبلة عندما يشتدّ عودها وتقوى عزيمتها وتوحّد صفوفها على قاعدة الإيمان وحمل رسالة الخير والمعرفة، وصحيحٌ أيضاً أنّ الفلسطينيين بمسلميهم ومسيحيّيهم هم طليعة أبناء الوطن العربي والأمّة الإسلامية في الدفاع عن الوجود والتاريخ والإيمان، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ الأمّة العربية والإسلامية بحواضرها وعواصمها وبعربها وعجمها ستبقى مدعوّة بأمر من الله تعالى لوضع حدٍّ للعنصرية اليهودية التي يقول تلمودها:

« تتميّز أرواحُ اليهود عن باقي الأرواح بأنها جزءٌ من الله، كما أنّ الابن عن والده، ومن ثمّ كانت أرواحُ اليهود عزيزةً عند الله بالنسبة لباقي الأرواح، لأنّ الأرواحَ غير اليهودية هي أرواح حيوانات شيطانية».

إنها عقيدة الإرهابي بنيامين نتنياهو ومستوطنيه وجيشه وحاخاماته وليكودييه وحتى الذين اختاروه ليكون رئيساً لهم. إنها العنصرية الإسرائيلية التي تنظر الى كافة بني البشر على أنهم حيواناتٌ وُجدوا في صورة بشر لتكون مقبولةً ولائقةً لخدمة عنصرية «شعب الله المختار» بزعمهم.

وهذه العنصرية ليست تهمةً لليهودية وصهيونيّتها بل هي صفة بارزة تتفاخر بها، ولذلك تجدون في توراتهم وفي سفر يشوع (كيف دفع الرب يهودا بمدن اريحا وعاي وعجلون وحبرون، الى جنود يشوع فذبح ملوكها وعلّقهم على الأخشاب وحرق بيادرها وهدم أبنيتها وقتل حميرها وقطع شجرها كل ذلك بحدّ السيف).

ألا ترون الآن على شاشات التلفزة وتقرأون وتسمعون أنّ الممارسات ذاتها تمارسها الحركة الإسرائيلية ـ الأميركية في بلاد العرب والمسلمين، وخصوصاً في القدس الشريف وما حوله بحقّ العرب بمسلميهم ومسيحيّيهم، لا فرقَ في هذه الممارسات بين الكنيسة أو المسجد، ولا بين مفتي القدس ومطرانها. ومن هنا نفهم، وعلى الآخرين أن يفهموا ويعوا قول المسيح عليه السلام بحقّ هؤلاء اليهود كما ورد في إنجيل متى في الإصحاح السابع:

«يا أولاد الأفاعي كيف لكم أن تتكلّموا بالصالحات وأنتم الأشرار، إنكم تشهدوني على أنفسكم أنكم قتلة الأنبياء لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا دررَكم قدام الخنازير اليهود لئلّا تدوسها، من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنباً ومن الحسك تيناً». وقد قال فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «يا إخوان القردة هل أخذكم الله وأحلّ بكم نقمته».

فالقدس الشريف وتحريره، وتحرير فلسطين كل فلسطين من البحر الى النهر واجب شرعي وفرض ديني على كل مسلم ومسلمة آجلاً أم عاجلاً ولو استمرّت المعركة المئات من السنين وسقط فيها الملايين من الشهداء، فهي أرض الرباط والشهادة وستبقى كذلك الى ما شاء الله، وهي في نفس الوقت ستبقى قضية عربية إسلامية ومسيحية، وقضية إنسانية لتحريرها من الأفعى الإسرائيلية التي ملأت الكون فساداً ورذيلةً وإرهاباً فكرياً وجسدياً وعلمياً وإعلامياً.

قد يكون من الصعب الآن وفي هذا العصر أن تتحوّل قضية بيت المقدس الى قضية مسيحية وإنسانية بسبب أخطبوط العنصرية الإسرائيلية المتحكّمة بالمال والاقتصاد والإعلام في الغرب الأميركي والأوروبي. ولكنها حتماً ستنتصر بعد أن يُدرك العالم المضلل خطورة العنصرية الإسرائيلية.

وسيتأكّد لعرب اللسان ومدّعي الإسلام أنّ التعايش أو التطبيع مع الأفعى الإسرائيلية مستحيل ، وأنّ إسرائيل بدأت نهايتها عندما وطئت أقدامُ الإرهابي شارون الحرمَ المقدسي منذ سنوات وعندما اتّخذ الرئيس الأميركي قرارَه المشؤوم أخيراً بنقل سفارته من تل ابيب الى القدس المحتلّة، ولذلك كان قول رسول الله لنا معشر المسلمين وخصوصاً سكان بلاد الشام: «لا تزال طائفةٌ من أمّتي تقاتل على أبواب بيت المقدس وما حوله وعلى أبواب أنطاكية وما حولها، وعلى أبواب دمشق وما حولها، لا يضرّهم خذلانُ مَن خذلهم ظاهرين على الحقّ الى أن تقوم الساعة».

فلندرك أنّ القدس الشريف وما حوله، كان وسيبقى على الدوام مكانَ رباط وجهاد في سبيل الله لقول الرسول: «هنيئاً لمَن سكن برّ الشام»، فقيل: « لما يا رسول الله؟»، قال: «لأنه في رباط الى يوم القيامة». ولقوله: «مَن اختار منكم ساحلاً من سواحل أهل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد الى يوم القيامة».

وقد سبق أن ترهّلت الإرادة العربية والإسلامية وأدّت فرقتُها الى احتلال بيت المقدس وكثير من بلاد الشام من قبل جيوش الإفرنجة القادمة من الغرب الأوروبي عام 1099م.

ولكنّ إرادة الله كانت هي الأقوى، عندما عرف العرب ومعهم المسلمون كيف يوحّدون صفوفَهم، وكيف يسيطرون على عقدة الأنا المتحكّمة في نفوسهم، فتوحّدت بلاد الشام بكل أقاليمها مع بلاد الرافدين في العراق ومصر الخالدة، ليكتبَ التاريخُ بأحرف من الإيمان ملحمةً إسلامية عربية بقيادة المجاهد صلاح الدين الأيوبي عام 1187م وقبله المؤمن البطل نور الدين زنكي، فتحرّرت فلسطين ودرّتُها القدس الشريف، لتبقى بيت المقدس واحة إيمان وسلام ومحبة ورحمة، وفيها العهدة العمرية منارة للخير والعدالة، وحرّية الإنسان وكرامته.

وعلى رغم الآلام والدموع والدماء التي تجتاح عدداً من أقطارنا ستبقى الأمّةُ العربية والإسلامية خالدةً بدينها رغم التحالف الشيطاني للحركة الإسرائيلية – الأميركية، وتباشير نهوضها تصنع بأيدي أشبال ابطال الانتفاضة الواعده التي أثبتت بدماء أبنائها أنها الأقوى وأنّ القدس الشريف سيبقى قبلةً لكل مجاهد وشريف على أرض العرب والإسلام، وستبقى فلسطين بشعبها وقدسها وانتفاضتها وفصائلها الفلسطينية المجاهدة المعيارَ الحقيقي لصدق المجاهدين وصفاء العروبة وسلامة الإيمان.