بالإذن من «النأي بالنّفس» وبيانه اليوم، القدس تشغل بال العرب مسيحيين ومسلمين، القدس نقطة اتصال الأرض والسماء، أشعلت بالأمس عواصم العالم، وبالرّغم من الأصوات الصادرة من عواصم العرب، أجدني منذ الأمس خائفة قلقة على مصير القدس وأهلها، لا أثقُ بمن أضاع فلسطين وتجاهل قضيّتها منذ ما يقارب السبعين عاماً، وأضاع القدس وتركها ترزح تحت الاحتلال خمسين عاماً، أعتقد أيضاً أنّ القدس نفسها لا تثق بهم!
خلال تاريخها الطويل، تعرّضت القدس للتدمير مرتين، وحوصرت 23 مرة، وهوجمت 52 مرة، وتمّ غزوها وفقدانها مجددًا 44 مرة، وعندما أصدرت إسرائيل قانون أساس اعتبرت فيه القدس الموحدة عاصمة أبدية للبلاد، أصدر مجلس الأمن الدوليّ في 20 آب 1980 القرار رقم 478 الذي نص على أن إسرائيل خرقت قانونًا دوليًا وطالب جميع الدول الأعضاء بسحب ما تبقى من سفاراتها من القدس، ورفض الاعتراف بقرار إسرائيل ضم القدس؛ واعتبره لاغياً وباطلاً وغير شرعي.
القدس منذ خمسين عاماً متروكة وأهلها المرابطون المجاهدون وحدهم، مُنعنا حتى من زيارتها بحجّة تطبيعٍ تركها فريسة للعدوّ الإسرائيلي يستفرد بها وبأهلها، وبالرّغم من أنّنا أمرنا بشدّ الرّحال إلى المسجد الأقصى، تجاهل العرب القدس وتركوها! كم للقدس من مراثي في تاريخنا العربي المخزي، أعادها صلاح الدين الأيوبي وضيعها مجدداً أولاده الذين ورثوا بلاد العرب عن أبيهم، حين احتُلَّتَ القدس ثانيةً من قِبَل الصليبيين، وممن رثوها الشاعر الفاضل شهاب الدين أبو يوسف فقال: «لتبكِ على القدس البلادُ بأسرهـا وتُعْلن بالأحـزان والترحاتِ/ لتبكِ عليهـا مكةٌ، فَـهْيَ أُخْتُهَـا وتشكُ الذي لاقتْ إلى عرفاتِ/ لتبـكِ على ما حَلَّ بالقدس طَيْـبَةٌ وتشرَحه في أكرمِ الحُجُــراتِ»…
القدس عاصمة الأديان ارتبطت في أذهان الشعراء العرب القدماء والمعاصرين بالتفجّع على فقدان المدينة، وكلّ الخوف أن نكون أمام موجة جديدة من رثائها، أحياناً أشكّ في أنّ الشعوب العربيّة «دُجّنت» مشاعرها وما عادت تغضب لشيء، ورثا الشاعر السعودي الدكتور زاهر بن عواض الألمعي رحاب القدس الحزينة الأسيرة: «ضجّت رحاب القدس وانتفض الثرى/ وتـفجــر البركان من أم القرى/ ومــضـى يــنــادي أمــــةً قــــوَّامـَــةً/ لِتدُكَّ صَـرْحَ الغاصبين وتَقْهَرَا»، أما الشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري، فلم يغادر هذا الأسى لما أصاب المسجد الأقصى في ظلّ الاحتلال اليهودي: «مالي أرى الصخرةَ الشَّمَّاءَ في كمدٍ/ تذوي وعَهْدِي بها مرفوعةُ العُنُـــقِ/ ومنبرُ المسجـد الأقصى يَئِنُّ أسًى/ قـد كـان يحبو الدُّنَا من طُهْرِهِ الغَـدِقِ» ويتمنّى الشاعر العراقي وليد الأعظمي أنْ يرويَ من دمائه رُبُوعَ القُدْسِ مُجَاهِدًا فيقول: «كأني بصوت القدس يعلو مردّدًا/ تَقَدَّمْ رَعَـاكَ اللَّهُ جيشَ الأُخُــوَّةِ/ وأُمْنِيَتِي أنّي أذودُ عن الحمـى/ وأروي ربوعَ القدسِ من دَمِّ مُهْجَتِي»، ويدعو الشاعر السعودي عبد الرحمن العشماوي أنْ نحرّر الأقصى من هول المصيبة التي ألمتْ به بعد احتلاله فيقول: «هذا هو الأقصى وطـائرُ مَجْدِهِ/ يشدو بألحان الهـدى ويرفــرفُ/ تتحَلَّقُ الأعــوام في ساحاتـــه حــلقاً/ تُسَـبِّحُ لـلإلـــــه وتَهْتِـفُ/ ويُقَبِّلُ التاريخُ ظــاهِــرَ كـفِّــهِ/ وبثــوبه جَسَــدُ الـعـــلا يتَلَحَّـفُ/ واليوم يَرْقُبُنا بطــرفٍ ساهِــرٍ/ ويداهُ من هول المصيبةِ تَرْجُفُ».. وهذا خليل مطران شاعر القطرين في قصيدة «تحية للقدس الشريف»: «سلامٌ على القدس الشريف ومن به/ على جامع الأضداد في إرث حبه/ على البلـــد الطهر الذي تحت تربهِ/ قـلـوبٌ غـدت حبّاتها بعض تربه»، وهذا علي محمود طه يقول: «أخي إنّ في القدس أختًا لنا/ أعدّ لها الذابحـون المدى/ أخي قم إلى قبلة المشركين/ لنحـمي الكـنيسة والمسجدا»، أما عمر أبو ريشة فرثاها بقوله: «يا روابي القدس يا مجلى السنا/ يا رؤى عيسى على جفن النبي»…
يترقّب العالم اليوم خطاب «المجنون» دونالد ترامب، سامحونا، نحن لا نثق بكم، كلّ الأجيال التي سبقتنا فقدت ثقتها بالعرب وبصدق مواقفهم، فلماذا نصدّقهم وقد عايشنا غصات آبائنا وأجدادنا، وأجدادهم من قبلهم!