تحضرني ذكرى من أيام ريعان الشباب، وكنت لا أزل طالباً، حين عادت جدتي والدة أبي من الاكوادور في أميركا الجنوبية بعد هجرة استمرت 40 عاماً لتقوم بزيارة القدس، فاصطحبتها والدتي من لبنان، وأنجزتا الزيارة، ولدى عودتهما الى بيروت أبلغتنا الوالدة أننا سنقوم بزيارة عائلية الى القدس، ولم تلبث أن وقعت حرب 1967 وبقي هذا الوعد غير محقق، وقبل فترة حين قمت بزيارة عائلية الى الاردن لحضور حفل زفاف اقيم بالقرب من البحر الميت، وخلال تلك الحفلة جاءني قريبي وقال لي انظر الى تلك الاضواء المتوهجة، وأشار الى المنطقة الغربية، هل تعرف هذه المنطقة؟ فقلت كلا، فقال لي: هذه هي القدس، وعندها دمعت عيني وانتابني حزن كبير، وسألت نفسي: ما هذا الشعور الغريب الذي احس به؟.
وتذكرت تلك الزيارة الوعد بحرقة وألم، فهل يكون ما أعلنه الوزير جبران باسيل مدخلاً الى إقامة سفارة لبنانية فعلاً في القدس، وتحقيق، ليس حلمي فقط، بل أحلام الملايين بزيارة القدس؟
وقد لفتني وأعجبني قرار لبنان فتح سفارة له في القدس… بالرغم من أنّه دون تطبيق هذا القرار صعوبات وعراقيل دولية عديدة، إنما من حيث المبدأ هو إنجاز مهم في المفاهيم كلها، وعندما طرحه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة قال إنّه سيتقدّم به الى مجلس الوزراء، وحسناً فعل.
قلنا إنّه قرار مهم، ويزداد أهمية كونه يراعي اعتبارات عديدة:
أوّلاً- إنّه يخدم قضية القدس تحديداً وطبعاً القضية الفلسطينية عموماً، حتى إذا نقلت الدول التي تعترف بدولة فلسطين سفاراتها من رام الله الى القدس الشرقية تكون قد عطّلت المخطط الاسرائيلي للهيمنة على كامل هذه المدينة التي يطلق عليها المسلمون تسمية “القدس الشريف” ويسمّيها المسيحيون على اختلاف مذاهبهم بـ”المدينة المقدّسة”.
ثانياً- على صعيد المسيحيين العرب فهم افتقدوا قبلتهم ومحجّهم منذ العام 1967 عندما سقطت القدس الشرقية في قبضة الصهاينة… وهنا نتحدّث حصرياً عن المسيحيين اللبنانيين وعن الأقباط المصريين الذين حظّرت عليهم مرجعياتهم الروحية، في البلدين معاً، التوجّه الى القدس، إنطلاقاً من مبدأ “مقاطعة العدو الاسرائيلي”، وفي لبنان هناك الموقف الرسمي للدولة أيضاً الذي يحظّر أي تعامل مع العدو، ويعتبر أي نوع من التعامل معه جريمة جنائية يعاقب عليها القانون، لذلك حيل دون الاخوة المسيحيين وحقهم في تأدية الحج في القدس… وهو كان ولا يزال حلماً يأملون أن يتحقق ذات يوم… فعندما تفتح سفارة للبنان في القدس الشرقية، باعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية، يسقط “الحرم” وتصبح زيارة القطاع الشرقي من “المدينة المقدسة” محلّلة أمام اللبنانيين مسيحيين وغير مسيحيين.
والآن يطرح السؤال ذاته: هل انّ قرار فتح سفارة لبنانية في القدس بات متاحاً وقابلاً للتنفيذ؟!.
وهذا السؤال المركزي يستوجب سلسلة أسئلة استطرادية:
1- هل ستقبل الدولة العبرية بنقل سفارات الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية الى القدس، وليس السفارة اللبنانية وحدها؟.. هل ستقبل بذلك وهي التي تسعى لتهويد القدس بكاملها بما فيها شرقيها؟
2- هل بات لدى الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحكومته الاستعداد (ثم القدرة) على هكذا خطوة؟
3- ما هو استعداد الدول الاخرى التي تقيم علاقات ديبلوماسية مع رام الله لأن تأخذ خطوات مماثلة للخطوة اللبنانية، فلا تبقى هذه الخطوة يتيمة، وبالتالي يتضاعف الضغط على إسرائيل؟
4- ما هي الإجراءات القانونية (الخاضعة للقانون الدولي تحديداً) وما هو دورها في هذا المجال؟
ختاماً اننا نرحّب بالقرار اللبناني الشجاع ونتمنى أن يبصر النور تطبيقاً فعلياً على الارض… ونشدّد على أهميته، أقله أنه خطوة أولى في طريق الألف ميل للحفاظ على القدس الشرقية (أو لاستعادتها) لفلسطين.
عوني الكعكي