في مثل هذه المواسم الخلاصيّة تحتفل الخليقة بمَن دخل عتمات الموت ليفجّر نور القيامة ويَهب الحياة. في هذه السنة تبدو الجمعة العظيمة وحيدة، وهي شاغلة الناس ومالئة الدنيا، في غياب المؤمنين الجماهيري عن الصلوات.
هو موسم كان يضجّ بالمشاركة، إذ كان ناس المدن البحريّة في أربعاء أيوب يخرجون إلى شاطىء البحر مزوّدين بطعام خفيف، يقضون يومهم هناك، فيما يكرّرون غسل أرجلهم بالماء المالح ربما من باب التطهير، بينما يتركون غسل وجوههم إلى منتصف ليلة عيد الغطاس حيث يؤمنون بأنّ مياه البحر تفقد ملوحتها.
من المفيد الإشارة أيضاً إلى استخدام العناصر الطبيعيّة في ترجمة مفاعيل عيد الفصح في حياة المؤمنين. ففي سبت لعازر ينصرف المؤمنون إلى صناعة «الحلقوم» من باب أنّ طعمه يُلغي طعم مرارة الموت في الحلق، كما في الشعانين حيث ترتفع أغصان النخيل، علامة الظفر لاخضراره الدائم، والزيتون، علامة السلام والمصالحة كما في حمل حمامة «نوح» غصن الزيتون بعد الطوفان.
في أربعاء أيوب يتمّ تقديس الزيت، وفي خميس الأسرار يتمّ تحويل القمح إلى أرغفة قربان توزّع على المحتفلين، ويوم الجمعة تجمع الأزاهير من كلّ البساتين لتوضَع عند قدمي السيّد المصلوب في وسط الكنيسة، أمّا في سبت النور فيتناول الكاهن أوراق الغار والورد والرياحين وينثرها على وقع لحن ترتيلة: «قم يا الله واحكم في الأرض»، فالأرض بمختلف عناصرها ساهمت في عمل الخلاص المنتصر.
في نهاية الاسبوع العظيم المقدّس تأتي الهجمة صباح الأحد في استعادة لمشهد النسوة اللواتي «أتينَ باكراً جداً» شاهِدات على القيامة، لكن هجمة النور كانت تترافق سابقاً، قبل الحرب الأهلية اللبنانية، بشتّى أنواع المتفجّرات وخاصة «الزرنيخ». كم دفع كثيرون حياتهم، أو أصيبوا نتيجة المبالغة في تجميع كمية المقذوفات الناريّة عند بدء الكاهن ترتيلته: «المسيح قام من بين الأموات». كأنّ «الجماهير» تريد تأكيد القيامة بالنار، والسيّد قام في هَدأة النور، في سكينة الفجر وبصمت القلب المؤمن.
تتّحد العناصر الطبيعية في حدث القيامة كما في تكامل عنصرَي التراب والماء بعنصر النار، عند إنارة الشموع عند إطلاق عبارة «المسيح قام»، وبعنصر الهواء عند فتح باب الكنيسة بعد الهجمة خارجاً، وتحريك ثريّات الإنارة الداخليّة إشارة إلى هبوب الهواء بالقيامة الحاصلة الحيّة.
لا تكتفي الطقوس الكنسيّة بترجمات مشاعر الناس، ترتيلاً وعادات، بل أيضاً عمدت إلى تنظيم طقوس خاصة باثنين الباعوث وبثلاثاء الباعوث. من هنا يعلّق الأرثوذكس كثيراً على اثنين الباعوث حيث تقام صلاة الغروب التي يُتلى فيها نصّ حَدث القيامة بلغات متعدّدة بسبب ما هو متوافر على ألسنة المؤمنين، منها العربيّة واليونانيّة والروسيّة والفرنسيّة والانكليزيّة وغيرها من اللغات تأكيداً على قيامة السيّد، والشهادة بذلك في العالم كلّه، ولا يكتفون بذلك بل يخرجون أيضاً إلى الشارع، بعد صلاة الغروب، صارخين ومرتّلين: المسيح قام.
كما خصّصت بعض الرعايا الأرثوذكسية إقامة ثلاثاء الباعوث في كنيسة أخرى في الرعيّة لا تقام فيها كلّ الصلوات، كما في كنيسة النبي إلياس في الميناء بطرابلس التي بناها صيّادو الاسفنج عام 1861 م، حيث يقام القداس الإلهي يوم الثلاثاء احتفالاً بالموسم، وبسبب موقع الكنيسة على الشاطىء وفَقش الموج، كان الشباب المحتفل قديماً يأخذ
«مَجده» في كمية المواد المستخدمة في تفجير الزرنيخ وتوابعه من رصاص وديناميت، فيتحوّل قداس الثلاثاء إلى ما يشبه هجمة أحد الفصح بامتياز.
وكما في سماح الكنيسة الأرثوذكسيّة للصائمين بأكل السمك في أحد الشعانين، من باب الترفّق والتخفيف والتسهيل من الكنيسة للصائمين، يسمح المؤمنون ويتسامحون يوم أحد القيامة بأنواع الأطايب احتفالاً بالمناسبة، فيما يتصدّر «البيض» البيوت إشارة إلى قيامة المسيح من قبر مغلق جديد، والألوان من باب تغيير العالم إلى الأحلى بالقيامة.
وتشهد حارات النصارى، إذا سمحت التسمية، جلسات التعاون بين نساء الحارة للمساعدة في إعداد أقراص الحلوى للعيد، حيث تتسابق النسوة على السمن الحموي والسميد وتوابع الصناعة اليدوية، فتنتشر روائح ماء الزهر في الأحياء إضافة إلى سماع منظّم وبإيقاع لخبطات النموذج الخشبي الذي يكبس به القرص لتأتي نقوشه فنّية معبّرة بامتياز، فيما ينصرف الصبية إلى نقل الصواني إلى الفرن للطهي، ثم إعادة الصواني ولكن بعدد أقراص أقل، بسبب الضيافة على طريق العودة للمعايدة أو للتذوق.
وتماشياً مع مواكبة تطوّر مفاهيم الهندسة الداخليّة لترجمة ماديّة لمضامين العيد الروحيّة إبتكرَ بعضهم «شجرة الفصح»، وذلك برفع غصن أخضر متين في البيت تتدلّى منه حبّات البيض الملوّنة، ليتسابق الأولاد في يوم العيد على اختيار بيضة للمُفاقسة. هذه المفاقسة قديماً كانت تتمّ في ساحات المدينة أو القرية، حيث كانت توزّع بعد انتهاء القداس على المصلّين ليقوموا بها، وكثيراً ما يعمد «بعض الولاد الشياطين» قبل يوم إلى تحضير بيضة بإحداث ثقب في أسفلها لإفراغها من محتوياتها، وحقنها بالشمع المُذاب لتصبح قويّة الهيكل، ما يسمح لها بتكسير أيّ بيضة تحاول التصدّي لها بالمفاقسة والانتصار.
«ووهب الحياة» هو إتمام الخطّ الخلاص منذ ان كان «روح الله يرفّ فوق وجه المياه»، إلى أن صار الفادي في وسط العالم فلن يتزعزع، بل سيدحرج بتدبيره الحجر القائم على نفوس أحبّته، ويطلقنا أحراراً من كلّ وباء، أو مرض، أو حجر وليصرخ فينا، في نهاية هذا الحجر الصحي، كما صرخ في حبيبه «إليعازر»: «قم خارجاً».