IMLebanon

عن يسوع وداعش …

كلام في السياسة |

لم يصل يسوع إلى الجلجلة مشككاً. والأكيد أنه لم يواجه الموت من دون يقينه بقدرته على قهر الموت. ليست المسألة إيمانية وحسب. ولا كانت في ذهنه مسلّمة مسبقة فقط. بل كان يسوع في زمن مقاومته الشاملة، قد خبر التحدي وجهاً لوجه. قارب الموت بالحس الملموس. خاض تجربته معه. وبات متيقناً من أنه أقوى منه.

ذلك أنه في مرات ثلاث سابقة، وقف يسوع قبالة الموت، وانتصر عليه. هي «القيامات» الثلاث التي ملأ بها تدبيره الخلاصي. هي ثلاثة انتصارات على الموت، معبرة جداً في دلالاتها والرسائل. المرة الأولى حين أقام ابن الأرملة في نايين من نعشه. المرة الثانية حين أقام ابنة يايرس من موتها. والثالثة حين أقام لعازر من قبره في بيت عنيا بعد أربعة أيام على وفاته.

ثمة روابط منطقية وخلاصية وحياتية واضحة بين القيامات الثلاث. في الأولى كان المبعوث حياً فتى شاباً. وكان وحيداً لأمه الأرملة. وبالتالي فموته كان يعني نهاية كاملة. لا بل كان يعني «النهاية».موت الفتى الوحيد هو نهاية عائلة، نهاية بيت ومنزل. نهاية ذرية وسلالة. نهاية عالم. لأن العائلة عالم صغير. تماماً كما العالم في مفهوم يسوع عائلة كبيرة. لذلك جاء إليه، أقامه من نعشه. أي من شدق الموت. انتزعه من براثنه لحظة افتراسه. لم يحيِ شخصاً ببعثه وحسب. بل أحيا والدة وأماً. كأنه رأى نفسه في ذلك النعش لحظتها. ورأى أمه مريم مكان الأرملة الثكلى. ورأى كل البشرية العقيمة بعد موته، في جمع المشيعين خلف النعش. كل مساره الفدائي تجسد في تلك اللحظة. فلم يتردد. أقام الفتى من موته. فأقام نفسه والتاريخ والبشر.

في القيامة الثانية، كانت الفتاة قد بلغت عامها الثاني عشر. وكان المرأة النازفة منذ اثني عشر عاماً أيضاً قد مسّت يسوع وهو في طريقه إلى ابنة يايرس، فشفيت بقوة خرجت منه. ورقم اثني عشر راسخ في رموزية الخلاص والكوسمولوجيا معاً. منذ الكواكب والأشهر وتوزيع الوقت، إلى الرسل والأسباط. إلى سلسلة لا تنتهي من الاثني عشرات. يسوع نفسه كان في الثانية عشرة حين دخل الهيكل. نجوم رؤيا يوحنا اثنا عشر. سلال الخبز الفائض في معجزة البحر اثنتا عشرة سلة… هي طفلة الأعوام الاثني عشر الميتة إذن، كل هذه معاً. وهي المرأة النازفة منذ اثنتي عشرة سنة كل هذه أيضاً. فالدم هو الموت. ونزف المرأة هو موت الحياة. لا بل هو قضاء على كل حياة. كل هذه قهرها يسوع، فشفيت المرأة وقامت الفتاة من الموت.

الرسالة نفسها أعطاها يسوع في القيامة الثالثة، مع لعازر. الشاب وحيد لشقيقتيه. بموته يقفل بيتهما. برحيله تسد دروبهما صوب الاستمرار والاستدامة والبقاء. مرة ثالثة، أراد يسوع أن يقول لناسه، وأن يقول لكل الناس والبشر والتاريخ، أن الموت ممنوع. أن آخر الطريق لا وجود له. أن الأبد هو خياره وقراره. وأنه هنا ليفتح للبشر تلك الكوة صوبه. ولو بعد حين. ولو بعد أربعة أيام. كأنها فصول السنة الأربعة. ما يعني أنه بعد كل عام، لا بل بعد كل الأعوام، سيظل الموت مهزوماً. وسيظل انتصارنا عليه ممكناً لا بل محتوماً…

بهذه القيامات الثلاث وصل يسوع إلى جلجلته. بهذه الانتصارات الثلاثة على الموت، وقف هو أمام موته الخاص. لم يكن ينقصه إيمان، ولا هوية ابن الإنسان، ولا تجارب قهره العدم… ومع ذلك، في اللحظة الأخيرة، في الثانية التي صار فيها ملامساً للموت، لم يقدر، ولم يختر، ولم يشأ إلا أن يكون إنساناً. في تلك المواجهة المحسومة، والمحتومة، لبس يسوع الإنسان. لا بل لبس تحديداً طبيعة أن يكون ابناً إنسانياً. ابن مريم، وابن أبيه لا غير. لحظة استحق موعده مع خلاص البشر، لم يلتفت إلا إلى أمه. لحظة جاءت ساعة فدائه لكل التاريخ، لم يهتم إلا بتاريخ والدته بعده. أوقف موته، وجلجلته وخلاصه ورسالته، جمدها كلها في ألمه وصلبه، ليتسنى له أن يعطي لأمه غداً. هو يوحنا ابنك. قال لها. لأنه يدرك أن موت الولد هو أكثر من موته. هو موت لأمه. لأنه يعرف أن الولد جزء من جسد أمه. لا يقطع عنها بالولادة، ولا بقطع حبل الصرة. ولا حتى بالوفاة. فهو يستتبعها حتى في موته، بموتها. تماماً كما تولد الأم في المرأة مع ولادة ابنها، كذلك تموت الأم وتموت المرأة بموت ابنها أيضاً. لذلك أوقف يسوع كل شيء، حتى أقام أمه من موته، وبالتالي من موتها. رغم إدراكه لقيامته، وقيامتها بعد أيام ثلاثة، مثل قياماته السابقة الثلاث.

يا الله ما أروعك ابناً، إنساناً، وإلهاً…

في يوم الجمعة العظيمة من العام 2015، قُدر لنا أن نشهد تصحيح خطأ تاريخي عمره ألفيتان ونيف. فمنذ بيلاطس وقيافا ونحن نعتقد أن يسوع قد صلب أيامهما. وأن صلبه وقع في أورشليم. وأن جلاديه كانوا شركاء من محتلين وعملائهم من سلطة الهيكل… كان علينا أن ننتظر أكثر من ألفي سنة، وأن نشهد داعش ووحوشها، لندرك أن تلك الوقائع غير دقيقة. فيسوع يصلب كل يوم. في وجه طفلة سورية مذعورة من عدسة. في أرض الموصل المنكوبة. في سهل نينوى المقفر من أهله السابقين تاريخاً ليسوع وللصلب. في كل شهيد مظلوم ورأس مقطوع. والأهم أن يسوع يصلب كل يوم، على يد كل وحوش الأرض. خصوصاً أولئك الذين يصلبونه باسم السماء.