Site icon IMLebanon

جزين: معركة لم تنكأ الخلاف

عمّمت حركة «أمل» الخميس الماضي قبيل انتخابات الجنوب البلدية، على مناصريها في منطقة انتخابات جزين النيابية الفرعية أن ينتخبوا ابراهيم سمير عازار في مواجهة مرشح التيار الوطني الحر أمل أبو زيد.

تجدر الاشارة الى أنّ قرار رئيس مجلس النواب نبيه بري في شأن تعاطيه مع معركة جزين النيابية الفرعية مرّ بمراحل عدة: بداية كان يميل الى النأي بنفسه عن هذه المعركة؛ تحت مبرّر أن لا داعي لخوض انتخابات نيابية فرعية في جزين طالما أنّ الفائز فيها سيترك مقعده النيابي بعد اشهر فقط، نظراً لأنّ البلد متّجه الى انتخابات نيابية عامة في النصف الاول من السنة المقبلة.

وعليه رأت وجهة نظر بري أنّ من الافضل تجنّب فتح اشتباك سياسي انتخابي في جزين على مقعد فرعي تدوم ولايته أشهراً، خصوصاً أنّ كلفته قد تصيب العلاقة بين حليفه حزب الله و«التيار الوطني الحر» التي هي أصلاً مثقلة في هذه اللحظة بعتب عوني على «الحزب» كونه وزّع أصواته في انتخابات زحلة على كلّ حلفائه، بدلاً من إعطائها كلها لمرشحي «التيار الوطني الحر».

على أنّ آل عازار – حلفاء بري التاريخيون في جزين- اصرّوا عليه دعم ترشيح ابراهيم عازار. وكانت وجهة نظرهم أنّ هدفهم من ذلك هو حفظ كرامة بيتهم التاريخي السياسي في جزين ومنطقتها، وعدم التسليم لعون بإلغائهم وتنصيب نفسه زعيماً أحادياً لعاصمة مسيحيي الجنوب.

وتُظهِر نتائج صناديق تصويت الناخبين الشيعة في جزين أنّ نسبة ٧٢ في المئة منهم اقترعوا لمصلحة مرشح «التيار الوطني الحر»، ومردّ ذلك لأسباب مركبة، منها علاقة الأخير الشخصية والاجتماعية الوثيقة بالنسيج الاجتماعي الشيعي في منطقة جزين، وأيضاً وقوف ماكينة حزب الله الانتخابية في جزين الى جانبه.

أضف لذلك أنّ بري الراغب بتجنّب فتح اشتباك سياسي مع «التيار الوطني الحر» في جزين على مقعد نيابي يدوم بضعة اشهر، اختار اتخاذ موقف مدروس لا يظهره أنه يستنكف عن الدفاع عن كرامة آل عازار أصدقائه التاريخيين من جهة، ولا يحمل معنى إشهار العداء الانتخابي المباشر لرئيس تكتل التغيير والاصلاح النائب ميشال عون و»التيارالوطني الحر».

لقد مرت الانتخابات الفرعية في جزين على نحو تحاشى فيه بري نكأ جرح النزاع على هويتها، او بكلام أدق، على فضائها الاجتماعي والسياسي. وتجدر الإشارة في هذا السياق الى أنه منذ العمل بقانون الانتخاب المعتمد في «جمهورية الطائف»، فإنّ جزين أصبحت سياسياً تدير وجهها الى فضائها الجنوبي، وارتبطت بدارة مصيلح من خلال علاقة وثيقة ومستمرة بين الأخيرة والنائب السابق سمير عازار وقبله سليمان كنعان، وحتى نجل فريد سرحال كان ضمن هذا الجوّ على رغم أنه كان قريباً ايضاً من حزب الله .

وحصل ذلك على رغم أنّ جزين الواقعة جغرافياً على كتف المختارة، طالما شكلت هاجساً لجنبلاط الراغب في جذبها الى معادلتها الجغرافية على حساب معادلتها السياسية مع مصيلح.

ولكنّ التطوّر الأبرز داخل ملف النزاع على هوية جزين حصل بعد حدوث ما سمي «تسونامي» عون الانتخابي، إذ منذ تلك اللحظة بدأ ملفها يشكل إحدى ابرز عقد العلاقة الساخنة بين الرابية وبري. والى حدٍّ ما فإنّ الخلاف العوني مع بري على جزين كانت له تأثيراته في لحظات معيّنة على سلاسة العلاقة بين بري وحليفه الاستراتجي حزب الله.

وكانت ذروة قصة التشنّج بين بري وعون على خلفية قضية جزين، حدثت عندما فاز التيار الوطني الحر بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠٠٩ بكلّ مقاعدها المسيحية بدعم من حزب الله، وزلّ لسان الوزير جبران باسيل يومها عندما اتخذ من «هذا الانتصار العوني» مناسبة ليطلق دعوته الى «تحرير جزين من مغتصبيها».

وكان لافتاً أنّ باسيل تقصّد زيارة جزين أمس الاول فور إعلان فوز أبو زيد، ليتكلّم عن البعد المهم لهذه المدينة في جنوب لبنان ونسيجه الاجتماعي والسياسي المقاوم. وواضح أنه أراد تصحيح كلامه السابق عن الدعوة الى «تحريرها من مغتصبيها».

خلاصات معركة جزين النيابية الفرعية تؤشر الى جملة ملاحظات اساسية: اولها أنه تمّت إدارتها سياسياً على نحو جنّب وقائعها أن تنكأ جرح الخلاف حولها بين بري وعون. وثانيها أنه في الوقت نفسه تمّ إحباط رهان التيار الوطني الحر على أن يفوز مرشحه بالتزكية، لأنّ ذلك كان سيحقق هدف التيار بإظهار أنّ المدينة أصبحت معقلاً مسلّماً به لـ»التيار الوطني الحر».

والواقع أنّ مجرد ترشح ابراهيم عازار أدّى الى توجيه رسالة مضادة تفيد أنّ جزين لا تزال محلّ تنازع عليها بين التيار الوافد اليها ليجعلها جزءاً من قراره المسيحي العام، وبين عائلاتها السياسية ذات الصِّلة الوثيقة بمصيلح وبإرث كبير من علاقة جزين بتاريخ سياسي داخل جنوب لبنان ومعه.

وثالث هذه الملاحظات يتمّ طرحها انطلاقاً من اعتبارات سياسية ووطنية ومستقبلية وأبعد أثراً من القضايا المباشرة الناتجة من تحالف عون – حزب الله. فجزين داخل التفكير السياسي العميق للشيعة والدروز والمسيحيين، مطروحة ضمن سؤال عن هويتها داخل معادلة الطوائف اللبنانية: هل هي جزءٌ من نسيج يغني اجتماع جنوب لبنان بالتعددية الطائفية الوطنية؟ أم انها جرم مسيحي عليه أن يسبح في فضاء جبل لبنان الماروني أو في فضاء الشوف الماروني ـ الدرزي؟؟!.

طوال العقود الماضية، جهد بري لتثبيت موقع جزين داخل الإجتماع الجنوبي السياسي والثقافي بصفتها جزءاً من تشكيلات مسيحيي الأطراف التي تغني ديموغرافيات اللون الواحد المذهبية الاسلامية بنكهة التعدّدية الطائفية والوطنية.

وكان بري نجح في تأكيد هذا المعنى لجزين في مقابل محاولات لجنبلاط سانده فيها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لجعلها جزءاً من تفاعل معادلة الشوف – جبل لبنان الدرزي ـ الماروني. وتمثّلت أبرز تلك المحاولات حينها بزيارة صفير لجزين خلال التسعينات من القرن الماضي، وهي كانت ستبدو طبيعية لو انها لم تقدم بصفتها جزءاً من جهد المختارة وبكركي لإتمام المصالحة المسيحية ـ الدرزية في الشوف.

وبهذا المعنى تُعتبر معركة «التيار الوطني الحر» في حزين منذ العام ٢٠٠٥ وحتى الأن، في نظر اوساط جنوبية نخبوية، بمثابة استكمال للبحث عن هوية لمسيحيي جزين خارج فضاء علاقة الأطراف الاسلامية بمسيحييه المقيمين تاريخياً داخل نسيجه الاجتماعي والسياسي والثقافي.

ومن منظارها فإنّ حركة التيار تجاه جزين تكتيكية وذات أهداف سياسية آنية، بينما علاقة جزين بمصيلح كانت تتّجه لتستكمل علاقات ميثاقية ووطنية عامة وأبعد من السياسات العابرة وتعكس طبيعة علاقتها التاريخية بفضائها الجنوبي.

بينما التيار يريد توظيف دور جزين في معادلة حزبية مسيحية عبر تسليط الضوء عليها بأنها «خاصته» داخل نزاعه للفوز بالغالبية داخل كلّ القرار المسيحي، وانها تماسه السياسي المباشر مع مراكز القرار في الطوائف الاخرى، وذلك نظراً لكون جزين تقع سياسياً وجغرافياً على مفترق طرق معادلة تجاذبات الرابية مع كلّ من مصيلح والمختارة.