على اللبنانيين الإقرار بأن قواعد العمل عند السياسيين واحدة لا تغيير فيها ولا تجديد. وفي كل مرة يصل فيها مسؤول جديد الى الحكم، ينتظر الناس منه تغييراً، لا لأنه وعدهم بذلك، بل لاعتقادهم أن المشكلة في الأشخاص فقط. وما هي إلا أيام أو شهور تمرّ، حتى يصدم الجمهور بأن هذا المسؤول يسير على خطى أسلافه. ومرة بعد مرة، وعقد بعد عقد، وشخصيات ترث شخصيات، لا يرضى الجمهور بمواجهة حقيقة أن التغيير يجب أن يطال النظام الطائفي وقوانينه، لا سياسييه وحسب.
العادة اللبنانية تجعل ممثل أي طائفة يعمل ليل نهار لتثبيت زعامته أولاً وأخيراً ضمن قواعده الطائفية. لا يهم إن كان لطيفاً مع الآخرين، أو قاسياً. الأصل هو تثبيت زعامته الطائفية. والعادة اللبنانية تجعل ممثل هذه الطائفة يتصرف بعقلية السياسي المنتقم، والقائد المستأثر، والزعيم الذي لا يقبل بأقل من الولاء الكامل. وهي العادة نفسها التي تجعل كل مخالفيه، أعداء وخصوماً، واجبي الاحتواء بالحسنى أو العزل والإقصاء، وتفرض على الجمهور ممراً إلزامياً لكل حق عام أو خاص، وهو الممر الخاضع لسطوته وسيطرته. ولأنه يريد من الجميع الطاعة، تفرض العادة اللبنانية على هذا الزعيم أن يباشر سريعاً، ودونما أي تغيير، عملية ترتيب محيطه اللصيق، من مساعدين وممثلين ومندوبين وعاملين في خدمته، في الحزب أو الجماعة أو الدولة. والعادة نفسها تفرض عليه إبعاد كل من يأتون بـ«وجع الراس»، وهذا يعني إبعاد كل من يملك رأياً أو رغبة في إشهار مخالفته أو نقده أو ملاحظته. كما تفتح العادة أعين هذا الزعيم وقلبه على «مفاتيح الجنان» في أرض لبنان، حيث المغانم التي لا يمكن توزيعها وفق مبدأ المشاركة. بل حصرها في يده، وتخصيص اليسير منها للأنصار، على أن تمنح الى هؤلاء على شكل الصدقة أو عمل الخير.
العادة اللبنانية، التي هي ترجمة قواعد عمل النظام الطائفي، تقول للزعيم إنه ليس بيدك حيلة سوى العصبية ومصلحة الطائفة لترفعها في وجه كل معترض أو منتقد. فيكون خائناً كل واحد من هذه الطائفة يدعو الى تغيير قواعد العمل. ويصبح حاسداً كل من يرفع الصوت اعتراضاً من خارج الإجماع. أما أصحاب الأصوات الآتية من جماعات أخرى، فهم حكماً من الأعداء الذين يجب على الأنصار مقاومتهم ومنع الاستماع إليهم لأنهم «ليسوا منا».
ومن دون الحاجة الى إطالة في الشرح، تصبح كل المؤسسات المفترض أنها عامة في وضعية الإقطاعية التي يتحكم فيها هذا الزعيم متى تولاها أحد أنصاره. وعندها، تكون القاعدة أن كل موظف يشغل منصباً، قررت عصابة الزعماء مجتمعين أنه من حق طائفة هذا الزعيم، يصبح مشروع خادم عند الزعيم، ليس هو وحده، بل كل من يمتّ له بصلة أيضاً. ومن يرفض هذه القاعدة، فليذهب الى الجحيم. وفي هذه الحالة، يكون كل من مرّ سابقاً، باسم الزعيم السابق، ملزماً بشعائر الولاء للزعيم الجديد، وبأن ينسى كل ما له صلة بما سبق، وأن يلعن كل الأسلاف دونما تردد. ومع احتمال أن يكون الجميع مستعدين لتقديم فروض الطاعة، فإن مصلحة الزعيم تقضي باختيار آخرين لشغل مناصب أساسية. ومعاييره في الاختيار يمكن اختصارها في مواصفات بسيطة: أنت يدي ورجلي وعيني وجيبي ولساني حيث تكون. وإذا أحسنت القياد بذلك، فليس مهماً أن تكون أهلاً للوظيفة نفسها أو لا تكون. وفي النتيجة، يكون نادي الأنصار والمحاسيب مقتصراً على الأكثر انتهازية والأقل صدقاً، والأكثر انحرافاً والأقل استقامة. وهذا، للأسف، حال قسم كبير من شاغلي مقاعد الصف الأول في مؤسسات القطاع العام.
والعادة اللبنانية تقول إن كل عناصر القوة المحلية لا تكفي، بل يجب الاتكاء على خارج قريب أو بعيد، يدرّ المال والدعم السياسي، ويفسح في المجال أمام أدوار ولو تافهة، لكنها تضع هذا الزعيم على خريطة التمثيل الواسع. وما يتعلمه هؤلاء من دروس التاريخ هو حصراً الاتكال على الأقوى. وفي حالات النزاعات الكبرى، من المستحسن عدم استفزاز الآخرين من الكبار في الإقليم والعالم. لكن الحظ العاثر لهذا الزعيم أو ذاك يكون عندما تحتدم المواجهة، ويفرض اللاعب الكبير في الخارج عليه المبادرة الى خطوة واضحة. وهنا، حصراً هنا، يعيش هذا الزعيم قلقه.
لكن الحقيقة اللبنانية تقول إن التعسف والقهر الذي يصيب الجماعات اللبنانية يدفع نحو بروز تيارات تغييرية ترفع شعارات كبيرة هدفها الخروج من هذا النظام. وهو ما يتيح تبدّل الولاءات عند الجمهور. ويفرض تغييرات كبيرة في القيادات الرموز، وما يسمح بالاعتقاد، أو التوهم، أن في هذا التغيير ما يتيح التقدم خطوات الى الأمام في معركة نسف أساس هذا النظام الطائفي وبناء بديل منه. وعند كل منعطف يشهده لبنان كل عقدين، نكتشف أننا أمام سراب.
مشكلة باسيل ليست في سلوك خاص، فهو يتعجّل حفظ واجبات الزعامة الطائفية
اليوم، تضج البلاد بخبريات جبران باسيل، الشاب الذي اجتهد لكسب ثقة القائد، فصار في مرحلة وراثة زعامته. ومشكلة الرجل بين أهل بيته السياسي هي أن لا أحد يمنحه الشرعية الكاملة لما يقول إنه أهل لتولّيه من مسؤوليات وإدارة. ومشكلته مع أهل جماعته أنه غير مأمون الجانب. أما مشكلته مع باقي الجماعات اللبنانية، فإنه قاصر عن فهم دروس التاريخ القريب، ومدّعي معرفة بأحوال البلاد والعالم. لكنه غير آبه لمشاعر أو حرمات أو مصالح الآخرين. وأنه يكرر تجربة من قال إنه خصم لهم، في قتاله لأجل محاصصة لن تفيد أحداً بشيء، وفي بناء علاقات مبعثرة ليس فيها ثابت سوى ما يخدم مصلحته، وفي مكابرة وإنكار وعدم استعداد للتراجع ولو خطوة الى الخلف. وفي حالة باسيل هذه، تأخذ ردود الفعل المعترضة شكلاً بغيضاً، أساسه تعصب طائفي أو حزبي أو مصلحي. فتكون كل مواجهة له، جارية بأسلوب محبب الى قلبه، ينتظر منها حاصلاً وحيداً، وهو أنه يخدم الهدف الأول ــــ كما تقضي العادة اللبنانية ــــ أي تثبيت زعامته في طائفته!
لن يكون باسيل مختلفاً عن كل من سبقه. وواهم من ينتظر منه تغييراً وهو الذي لا يرى أنه مخطئ في شيء. وساذج من يعتقد أن تبدلاً سيصدر عن الجهات الراعية له، من قائده أولاً، الى حلفائه الأقوياء ثانياً، الى شبكة المصالح المادية التي تقوم على عجل من حوله.
السجال القائم اليوم لن ينتهي في وقت قصير، والمشكلة أن القائمين عليه أو المشاركين فيه لن يقتربوا لحظة من أصل المشكلة، ومن كون المعركة هي في وجه هذا النظام البغيض الذي يفرض على اللبنانيين خوض جولات من العنف والكراهية كل عقدين من الزمن، حصراً لأجل إعادة إنتاج القديم… إنها، باختصار، المأساة اللبنانية.
كثيرون يشكون من كون التشخيص أو وصفة حالة المريض لم تعد كافية، ويسألون عن العلاج والحل. وهم يفترضون الأمر ممكناً من نفس الناس ونفس الآليات. لكن الغالبية اللبنانية ترفض الإقرار بالخطأ الأصلي الذي قام عليه هذا الكيان. وهو خطأ كبير، ومن المؤسف القول إنه قد يكون مستحيلاً تصحيحه من داخل لبنان!
أما جبران باسيل، فليس لنا سوى الترحيب به عضواً في نادي منتحلي صفة زعماء طوائف لبنان. وهؤلاء ــــ كما تقول العادة اللبنانية إياها ــــ ليسوا سوى عابرين، ولو على جثث وأوجاع جمهور ينحني خانعاً ومتذرّعاً بحاجته إلى قوت عياله!