لم يأتِ ترشيح الدكتور جهاد أزعور لرئاسة الجمهورية من فراغ. لا على المستوى الشخصي ولا على المستوى السياسي. إرادات كثيرة تلاقت حول طرح اسمه كمرشح إنقاذ للجمهورية من خلال تبوّئه الموقع الرئاسي، ومرّت هذه العملية عبر محطات كثيرة بدأت بالرؤية الذاتية لأهمية هذه المهمة، وبالتقاء أكثر من طرف حوله، الأمر الذي حوّله إلى الاسم الأبرز في معركة الرئاسة الصعبة.
يذهب النواب إلى جلسة الإنتخاب المقرّرة في 14 حزيران الحالي في ظلّ أربعة تطورات تحكم انعقادها ونتائجها:
• إعلان رئيس المجلس النيابي نبيه بري أنّ المحور الذي يمثّله سيصوّت لسليمان فرنجية وسيُسقط خيار الورقة البيضاء.
• إعلان كتلة «الوفاء للمقاومة» أنّ نوابها سيشاركون في الجلسة وسيصوتون لفرنجية.
• إعلان كتلة «اللقاء الديمقراطي» أنها ستصوِّت لأزعور بانتظار إعلان كتل أخرى ونواب لمواقفهم.
• تأكيد مديرة الإعلام في صندوق النقد الدولي جولي كوزاك أنّ أزعور علّق عمله مؤقتاً في الصندوق كمدير منطقة الشرق الاوسط وآسيا الوسطى، مشيرة إلى أنّه «في إجازة حالياً» وأنه من أجل تجنب اي تصور بشأن تضارب المصالح تخلّى عن مهامه في الصندوق. الأمر الذي يعني تفرّغه للمعركة الرئاسية وإسقاط حجة أنه يتردد في تقديم استقالته من موقعه.
بداية المسار نحو الترشّح
بدأت رحلة أزعور إلى دقّ أبواب قصر بعبدا قبل انتهاء ولاية الرئيس العماد ميشال عون عندما بدأ الحديث عن المواصفات التي يجب أن تتوفّر في المرشّح الذي يمكن أن يحلّ محله في رئاسة الجمهورية، بعد الإنهيار الذي أصاب لبنان وعهده والتداعيات التي انعكست على الفريق السياسي الذي كان يدعمه منذ ثورة 17 تشرين 2019 وخروج الرئيس سعد الحريري من العمل السياسي. قبل الدخول في الأسماء بدأ وضع المقاييس التي يجب أن تتوفّر في الرئيس الجديد وأهمّها تلك التي أعلنها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة وعظة، وهي تتركز حول مهمة إنقاذ لبنان واستعادة هويته وسيادته وإعادة بناء الدولة وتحرير قرار الشرعية من الإرتهان.
في تلك المرحلة وفي ظلّ الإنهيار الشامل كان الحديث يتركّز على الموضوع الإقتصادي لأنّه كان النتيجة الأولى للإنهيار السياسي وانعدام الثقة بين المنظومة الحاكمة والقوى التي تنشد التغيير والإنقاذ. كان السؤال كيف يمكن أن يكون هناك رئيس للجمهورية قادر على إخراج لبنان من أزمته وقيادة عملية الإنقاذ بعدما أصبح معزولاً عن العالم وخرج من المنظومة الإقليمية، واتسعت الفوارق بينه وبين محيطه ودول الخليج على كل المستويات، وصار الوقت الضائع يعمِّق الأزمة أكثر، وبات من الواجب إعطاء جرعة أمل للبنانيين من خلال اختيار الرئيس الجديد المناسب لمهمة الإنقاذ، خصوصاً أنّ استمرار الأزمة حمل الكفاءات والنخب على مغادرة لبنان. في ظل هذا الوضع، وفي ظل التجاهل الدولي للإنهيار كان المطلوب رئيساً يعرف كيف يخاطب العالم وكيف يتعاطى مع الأطراف الداخلية ويعرف أسباب الأزمة وطريقة الخروج منها. من خلال مسيرته الشخصية وعمله ومسؤولياته الرسمية التي تولّاها في لبنان والمنظمات الدولية، ومن خلال خبرته التي راكمها اعتبر أزعور أنه يمكن أن يكون أهلاً لهذه المهمة. صحيح أنّه عمل في الشأن العام ولكنّه لم ينغمس في اللعبة السياسية وفي التسويات والمحاصصات. فهو كما يُعرَف عنه ماروني منفتح قادر على أن يتحاور مع الجميع في لبنان، ولا خلافات بينه وبين أي طرف، ولا خصومات و»مش مسكّر مع حدا».
إشارات جنبلاطية متقدمة
أولى الإشارات التي ألمحت إليه كانت مع الحديث الذي بدأ يروّجه رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي»، المستقيل حالياً، وليد جنبلاط، عن الحاجة إلى رئيس تجتمع فيه صفات من الرئيسين السابقين الياس سركيس وفؤاد شهاب والوزير والنائب السابق جان عبيد خال جهاد أزعور. بعد ذلك بدأت مرحلة البحث عن أسماء مع البطريرك الراعي، أسماء لا تشكل تحدّياً لأي طرف وكان اسم أزعور من بينها.
حصل كل ذلك بينما كانت المعركة تخاض داخل مجلس النواب في جلسات مكرّرة بين ترشيح واضح وقوي للنائب ميشال معوض مقابل مرشح غير معلن هو سليمان فرنجية. وكان المجلس النيابي تحوّل ساحة للتعطيل وتعميق الأزمة من أجل وصول الفريق الداعم لفرنجية إلى النجاح في فرضه مرشحاً وحيداً للرئاسة ثم يجبِر الآخرين على القبول به، تحت ضغط التهويل باستمرار الفراغ حتى لو أدّى ذلك إلى تدمير ما تبقى في البلد.
لم يكن أزعور بعيداً عن هذا الجو الذي بدأ فيه التلميح إلى اسمه كمرشح يمكن أن تقع القرعة عليه كتقاطع بين قوى معارضة لمرشح الثنائي الشيعي سليمان فرنجية. لم يبادر إلى الإعلان عن رغبته بالترشح ولكنه كان بدأ العمل من خلف الستار على هذا الخيار من خلال لقاءات استطلاعية عقدها مع أكثر من طرف في لبنان، من «حزب الله» إلى الرئيس بري، إلى رئيس حزب «القوات» سمير جعجع، ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل وغيرهم.
بعد الجلسة العاشرة الفاشلة لانتخاب الرئيس طرح وليد جنبلاط ثلاثة أسماء كخيارات للخروج من المأزق: جهاد أزعور والنائب السابق صلاح حنين وقائد الجيش العماد جوزاف عون. كانت تلك بداية الإنتقال إلى خيار أزعور والبحث عن التقاطع حوله مع قوى أخرى خصوصاً «التيار الوطني الحر». لم يتشاور جنبلاط مع أي طرف آخر بهذه المبادرة ولا تواصل مع الذين طرح أسماءهم ومن بينهم أزعور. حتى أن أزعور لم يتشاور أيضاً مع البطريرك الراعي الذي كان التقاه في بكركي. كان الراعي قد ألمح أكثر من مرة إلى أنّ المطلوب مرشح لديه قدرة على مدّ الجسور ويستطيع أن يُخرج البلد من التعطيل ولديه انتماء واضح مسيحياً، ولم يبحث مع أزعور في مسألة أن يكون وحده مرشّحاً يتبنّاه. كانت لديه مروحة من الأسماء وكان أزعور واحداً من بينها. خلال هذه المرحلة حصل نوع من التقاطع حول مواصفاته بين البطريرك ووليد جنبلاط ورئيس «اللقاء الديمقراطي» تيمور جنبلاط. كان أزعور على علم بتلك التطورات ولكنّه كان جاهزاً من دون أن يكون متحرّكاً على هذا الهدف.
البحث عن تسوية ومنافسة ديمقراطية
لم تكن هناك علاقة خاصة بين أزعور وجبران باسيل كما حاول المعارضون له الإيحاء من أجل عرقلة الوصول إلى تفاهم واسع حوله. فهو بحكم أعماله السابقة في لبنان والمستمرة في المنظمات الدولية كان على تواصل مع الجميع وقد التقى باسيل في واشنطن عندما كان يزورها مرة بصفته وزيراً للخارجية. وهو على رغم امتلاكه مواقف سياسية لم ينتم إلى أي حزب سياسي أو إلى أي فريق. حاول معارضو ترشيحه قبل ترشيحه بدء حملة مبكرة عليه من خلال البدء بالحديث عن أنه مرشح مواجهة وهو ليس كذلك في كل الأحوال. وهذا ما استدعى تراجعاً تكتيكياً في مسألة طرح اسمه بانتظار المزيد من الإتصالات والبحث مع اعتبار أن الوقت ليس مؤاتياً بعد.
ولكن أكثر من تطوّر دفع الأمور باتجاه خيار أزعور. التطوّر الأول تمثّل بالإتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران في الصين، وبدء الحديث عن مرحلة تسويات جديدة في المنطقة وعن حلحلة في الأزمات التي تعصف بها من اليمن إلى سوريا ولبنان حيث للدولتين تأثير وانخراط في الصراع سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ترافق هذا الأمر مع البدء عن حديث عن مهل جديدة في موضوع الإستحقاق الرئاسي في لبنان خصوصاً بعد حديث الرئيس نبيه بري عن تاريخ 15 حزيران. كما ترافق هذا الأمر مع ربط الفراغ الرئاسي بفراغات منتظرة في مواقع أساسية لا سيما حاكمية المصرف المركزي في تموز، وقيادة الجيش في كانون الثاني المقبل. وترافق أيضاً مع الحديث عن المنافسة الديمقراطية وعن اختيار الفريق المعارض لترشيح فرنجية مرشحاً يتم التقاطع حول ترشيحه، وتكون جلسة الإنتخاب في مجلس النواب على أساس القبول بنتائج المنافسة «الرياضية» المنفتحة على الحلول. وعلى هذا الأساس كان يمكن أن يبدأ العمل على إنضاج ترشيح أزعور الذي لم يكن متردّداً في الدخول في منافسة من هذا النوع وفق التوصيفات التي أعطيت لها بحيث أنها لا تزعجه ولا تشكّل تحدّياً لأي طرف، وعلى أساس استعداد الجميع لتحمل الربح أو الخسارة. ومن ضمن هذا الجو بدأ التذكير بانتخابات العام 1970 الرئاسية بين المتنافسين سليمان فرنجية والياس سركيس، التي لفّها الغموض وانتهت إلى فوز فرنجية بفارق صوت واحد وبمشاركة 99 نائباً من أصل 99، ومن دون أي ورقة بيضاء، ومن دون اعتراض على النتيجة التي حسمتها عملية الإنتخاب.
هذا الجو شجّع أزعور على ركوب مركب المغامرة مقتنعاً بالأصول الديمقراطية التي يجب الإرتكاز عليها. ونتيجة هذا الإقتناع بدأ التواصل معه حول تبنّي ترشيحه وكان فاتحه بهذا الأمر في شكل أولي النائب غسان سكاف الذي كان يتحرّك على جبهة تقريب وجهات النظر من أجل الخروج من المأزق الرئاسي والإتفاق على مرشّح لا يشكّل ترشيحه تحدّياً لأحد، ولا يكون مناورة من أجل حرقه.
قبول الترشيح
أقدم أزعور على قبول اقتراح ترشيحه والتوافق عليه شعوراً منه أنّه يمكن أن يشكّل نقطة التقاء لتقاطع سياسي واسع من دون أن يكون تحدياً للطرف الذي يرشح سليمان فرنجية. بل ليكون مرشحاً منفتحاً على الداخل وعلى الخارج لا عداء له مع أحد، يتولى تنفيذ مهمة محدّدة في ظرف محدّد لإنقاذ البلد للخروج من التعطيل من خلال أطر جديدة في الممارسة الرئاسية، على قاعدة أن يكون الرئيس الجديد فوق الكل والخلافات، فاتحاً صفحة جديدة ومتعاوناً مع الكل، يضع الرؤية ويرسم الخط الذي يجب السير عليه، ومسؤوليته مراقبة التطورات والوصول إلى إنقاذ البلد.
هذا البروفايل الذي أُعطِيَ لدور الرئيس كان يشبه أزعور والمهمة كانت تشبهه أيضاً. وهذا الأمر لم يمنعه من خوض التجربة. وشجعه أكثر على هذا الخيار التقاطع الذي حصل حوله. فهو بحسب تجربته وبحسب ما ينقل عنه بعض المحيطين به، «مش لحدا ومش عامل اتفاق مع حدا ومش عاطي وعود لحدا». وهو لا يرفض أن يشكّل اسمه تقاطعاً بين قوى سياسية متفرّقة التقت حول ترشيحه باعتبار أنّ هذه المساحة المشتركة التي يمثلها لا تعني التنازل عن موقعه وعن طريقة عمله. ومن هنا انطلقت عملية ترشيحه.
في الحلقة الثانية يوم الإثنين: اللقاءات مع «حزب الله» وبري و«القوات» و«التيار» مرحلة العمل في وزارة المالية والمهمة المنتظرة