لا يجادل أحدٌ في حقّ جهاد أزعور في أن يترشّح لرئاسة الجمهورية، شأنه في ذلك شأن أيّ شخصيّة مارونية تجد نفسها ممتلكة كل المواصفات والشروط التي لا تؤهلها للترشّح فقط، بل لأن يُخلَع عليها لقب «فخامة الرئيس».
كما لا يُنازعه أحد في حقّه في أن يحضّر نفسه للاستحقاق، ويتحصّن قبل الانتخابات الرئاسية بكل ما قد يخدم وصوله الى رئاسة الجمهورية، فهذا الامر أكثر من طبيعي بالنسبة لأزعور وكذلك لأي مرشّح غيره، بل هو اقل ما يجب عليه ان يفعله لتحقيق هدفه.
علّق ازعور، أو عُلِّقت مهامه العليا مؤقتاً في صندوق النقد الدولي، البعض اعتبروا ذلك اجراءً طبيعيا جدّا فرضته أولوية التفرغ لمعركته الرئاسية.
لكن هذا التعليق، سواء اكان عفوياً او موحى به، خضع لتفسيرات ربما تكون واقعية او غير واقعية، كما لم يسلم من الانتقاد، فثمة من اعتبره خطوة متسرّعة، ولا لزوم لها. وثمة من افترض انها تعبّر عن عدم ثقة ازعور بفوزه، فقرر ان يحجز موقعه في وظيفته، حتى لا يخسر الاثنين معاً. وثمة من ذهب الى اعتبارها خطوة غير بريئة، القصد منها توجيه رسالة عبر هذه المؤسسة الدولية المعلوم مقرها في واشنطن، توحي بأنّ أزعور هو مرشح مدعوم من الولايات المتحدة الاميركية.
اما في المقابل، فثمّة من قاربَ خطوة ازعور هذه على الطريقة اللبنانية، حيث تناولها أحد الظرفاء بقوله: «للوهلة الاولى اعتقدت انه صار ماسك الرئاسة بإيدو». ثم يضيف مُتندّراً: «كأنّه بتعليق مهامه يقول لصندوق النقد «انا رايح مشوار ع لبنان اعمل رئيس وراجع»!
بمعزل عن كلّ ذلك، فإن الوصول الى رئاسة الجمهورية، وبالنظر الى تركيبة لبنان وموقعه، تحكمه ظروف واعتبارات وتوازنات وعوامل متداخلة ما بين الداخل والخارج، ومعظم رؤساء الجمهورية وصلوا الى رئاسة الجمهورية، بمقتضى تسويات تَشارَك فيها الداخل والخارج. وتبعاً لذلك، هل ان جهاد ازعور سلك الطّريق الصحّ الذي يوصله الى القصر الجمهوري، وهل أحسن في تقديم نفسه كنقطة التقاء عليه ضمن ايّ تسوية تفرض على اطراف الصراع السياسي الذهاب اليها؟ أم أنّه سلك الطريق المعاكس لذلك؟
في بادىء الأمر، مرّ اسم جهاد ازعور، ضمن سلّة اسماء تداولها معارضو انتخاب سليمان فرنجية، طرحه وليد جنبلاط، وضمّه جبران باسيل الى لائحة اسماء تبنّاها، ومرّ ذلك مرور الكرام، ولم يعد له أثر بعد الحراك الفرنسي الذي رفع أسهم فرنجية. المعارضون في الداخل أُربِكوا، وشنوا حملة شتم غير مسبوقة على فرنسا، وعلى ما يقال باللبناني الدارج، «جَمعتهم المصيبة»، ولحسوا شيطنتهم لبعضهم البعض، وصاروا يفتشون بالسراج والفتيلة على شخصية مارونية يلتقون على دعم ترشيحها، ايا كانت هذه الشخصية. جرّبوا مع كثيرين رفضوا أن يزجّ بهم في معركة لا يريدونها؛ منهم من رفضوا أن يعتبروا مرشحين «بدل عن ضائع»، ومنهم ايضا من رفضوا ان يُقدَّموا قرابين مجانية في معركة خاسرة سلفا. ومنهم من رفضوا ان يستخدموا او يستثمر عليهم وبهم، في معركة تصفية حسابات.. والواضح في هذا السياق انه لم يبق في الميدان سوى جهاد أزعور.
في البداية، «برم» أزعور و»فتل» على الأطراف السياسية وبعض المرحعيات الروحية، مقدما نفسه حمامة سلام، وقاسما الف يمين ويمين انّه ليس مرشح تحدٍ لأحد، او مواجهة مع اي فريق سياسي، او استفزاز لأيّ مكوّن طائفي او مذهبي.
في كلّ تلك «البرمات» و«الفتلات» التي حصلت بعيدا عن الاعلام ، قال أزعور إنّه مقيم في مربّع التوافق، وبدا حاسماً في تحديد مكان إقامته ضمن هذا المربّع. ربما كان ازعور مدركا آنذاك ان طريق التحدي والمواجهة صعب سلوكه، ويستحيل ان يوصله الى رئاسة الجمهورية.
الرسالة التي نقلها بصورة مباشرة وصريحة مفادها انه ليس في وارد أن يدخل في تحدي او مواجهة اي كان، وعلى وجه الخصوص مع فرنجية، وانه إن كانت تطورات الملف الرئاسي ستجعل من التوافق على رئيس للجمهورية، ممرّا الزاميا لاتمام الانتخابات الرئاسية، فإنه من موقعه ضمن مربع التوافق، على استعداد لأن يتحمّل المسؤولية الرئاسية.
زار أزعور ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله»، وهو مدرك اصلا انّهما ملتزمان بدعم ترشيح سليمان فرنجية، لم يسمع من «الثنائي» اي «فيتو» مسبق عليه، او اي تشكيك بقدرته على تحمل المسؤولية الرئاسية، بل تقدير لشخصه ومواصفاته وكفاءاته، الا انّ كل ذلك يقف عند حدود انّ التزامهما بدعم فرنجية ثابت ونهائي ولا رجعة عنه.
امام التزام الثنائي بدعم فرنجية، من الطبيعي في هذه الحالة ألّا يجد أزعور مبتغاه لديهما. هذا في وقت كان التواصل بين المعارضات وأزعور قد بلغ مداه، ولم يطل الوقت، حتى طارت «حمامة السلام» أو طُيِّرت من عشها، وحطّت مع جبهة المواجهة والتحدّي، وحدّدت مكان إقامتها بين ما باتت تسمّى التقاطعات.
بمعزل عمّن نصح، أو أوحى، أو أمر بأنّ تحطّ الحمامة مع تلك الجبهة، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا ارتضى أزعور، فيما رفض غيره، أن يكون في هذا الموقع؟ وهل أنّه يرى في الأفق الرئاسي ولو وميضا طفيفا يبشّره بأنّ هذه الجبهة ستوصله الى رئاسة الجمهورية؟
ربما نسي ازعور انه اكد امام من التقاهم أنه ليس مرشح مواجهة مع احد او تحدٍّ لأحد، وربما سها عن باله ان هذه الجبهة التي انخرط فيها كناية عن:
– مجموعة مقيمة دائما خلف متاريس الصدام والاشتباك، ومنطق الإلغاء والإقصاء، رفضت كل دعوات التلاقي والحوار والتوافق على رئيس للجمهورية. وضمّت في صفوفها بعض المرتزقين المخادعين الذين دعسوا على ما سمّوها هم «ثورة 17 تشرين»، وصاروا ينطقون بكلام اكبر منهم، يظهر وقاحة كذبهم على الناس واستثمارهم على أوجاعهم بالغش والخداع، التي عبروا من خلالها الى مجلس النواب على متن كسور افرزتها لعنة قانون الصّوت التفضيلي والنسبية المشوّهة.
– معارضات راكمت في صندوقة الاقتراع الرئاسي رصيداً من الخيبات لا تحسد عليه، حيث انها سقطت في أحد عشر فشلاً مع ميشال معوّض، وبذات المنطق الفاشل الذي استخدمته لتسويق اسم معوّض، تسوّق ازعور في هذه الفترة، وتوهمه بأنّ نومه في العسل الرئاسي بات قريبا.
شتات سياسي، رافض لبعضه البعض، ومُشيطن لبعضه البعض، ومزايد على بعضه البعض، ومدعٍ للعفة السياسية، تقاطع على إسم ازعور، ليس عن قناعة، فكلّهم يجاهرون علنا بأنّ ازعور «ليس مرشحنا بل تَقاطعنا عليه، وان دعم ترشيحه دفع اليه فرصة تقاطع توفّرت لمواجهة فرنجيّة لا أكثر ولا أقل». ما يعني ان هذا الشتات وما فيه من تقاطعات، حوّل دعم ازعور الى ورقة استثمار على الحلبة الرئاسية، لقطع الطريق على فرنجية ومنع وصوله الى رئاسة الجمهورية، وليس تطويب أزعور على العرش الرئاسي. يعني ذلك، أنّ كلّ هذا الشتات السياسي المتفرّق، ربطَ دعمه ترشيح ازعور بخيط رفيع قابل لأن ينقطع مع أيّ نسمة هواء سياسية معاكسة، تهبّ في أي لحظة من الداخل او من الخارج او من الداخل والخارج في آن معاً، وساعتئذ سيتفرّق العشاق، وستتنقل البواريد من اكتاف الى اكتاف اخرى، ووحده جهاد أزعور سيبقى واقفاً بين التقاطعات، مقطوعاً من شجرة.
يبقى انّ جلسة مجلس النواب المحدّدة غداً 14 حزيران لانتخاب رئيس الجمهورية، كل شيء وارد فيها إلا انتخاب رئيس الجمهورية، وما بعدها بالتأكيد ليس كما قبلها. والسؤال البديهي الذي يحضر هنا: لنفرض ان حدثت معجزة وانتخب ازعور فطريقه الى القصر الجمهوري فوراً، ولكن ماذا لو لم تحصل هذه المعجزة، وبالتأكيد لن تحصل، فهل سيكمل في هذا المسار ويبقى متموضعاً بين تقاطعات طريق بعبدا أمامها مسدود، أوّلها وآخرها «بهورات» بلا حدود، همّها فقط النيل من ترشيح فرنجية ولا فرق عندها إن كان أزعور سيكرّم او يهان في هذه الانتخابات. ام انه سيكتفي بهذا القدر ويعود الى وظيفته بأقل الخسائر الممكنة؟