قبل أن يكتمل مسار ترشيح الدكتور جهاد أزعور بالتوافق بين تيارات المعارضة و»”التيار الوطني الحرّ»” في مواجهة مرشح “«الثنائي الشيعي”» سليمان فرنجية، بدا وكأنّ هناك محاولة لخطف ترشيحه وقطع الطريق عليه وترهيبه. التهديد المباشر ظهر على مستوى الخطاب السياسي لبعض أركان “الثنائي”» بعد حسم النائب جبران باسيل موقفه المؤيّد لأزعور.
في جوّ الحملة المعاكسة لترشيح أزعور جاءت عملية خطف المواطن السعودي مشاري المطيري فجر الأحد الماضي من وسط بيروت، ليتمّ ربطها في البداية مع احتمال أن تكون تصبّ في إطار استهداف هذا الترشيح قبل أن تكتمل فصول نحاج الجيش اللبناني في تحريره من خاطفيه قبل ظهر الثلاثاء، بعد عملية نوعية على الحدود اللبنانية السورية، أوقف خلالها عدداً من المتورّطين في عملية الخطف. ولكن على رغم هذا الإنجاز الأمني الذي سجله الجيش اللبناني بقي التساؤل عما إذا كانت هذه العملية تأتي ضمن التوتر السياسي المرافق لعملية تعطيل انتخابات الرئاسة وإمكانية تحوّله إلى توتّر أمني، ربطاً باستهداف الدور السعودي في لبنان وعلاقته باستحقاق الرئاسة.
لم تكن مضت ساعات قليلة على عملية خطف المطيري، وقبل أن يتمّ الإعلان عنها، حتى كان السفير السعودي في لبنان وليد البخاري يلتقي قائد الجيش العماد جوزاف عون في مكتبه في وزارة الدفاع. لم يُعرف إذا كان هذا الموعد مع قائد الجيش مدرجاً سابقاً على جدول لقاءات السفير البخاري أم أنّه استجدّ ربطاً بعملية خطف المطيري، خصوصاً أن السفير كان عاد قبل ساعات إلى بيروت من المملكة العربية السعودية. وهذا الأمر يرتبط بشكل مباشر بحركة السفير اللاحقة لهذا الحدث. هل سيستمرّ في لقاءاته التي كان واظب عليها بحرية كاملة؟ أم أنّه سيتّخذ تدابير احترازية أمنية للحدّ من حركته؟ وبالتالي هل تكون هذه العملية الأمنية، على رغم نجاح الجيش في إنهائها، مرتبطة بالدور السعودي في لبنان؟ أم أنّها تتعلّق فقط بعملية ابتزاز مالي وعمل عصابات منظمة تقوم بعمليات خطف مماثلة من أجل الإبتزاز المالي؟
رسالة إلى السعودية؟
من البداية لم يتمّ التعاطي مع عملية الخطف وكأنّها عمل عصابات. في الظاهر أُعطِيت العملية هذا الوجه من خلال حركة الهاتف المرتبطة بالعملية وللإعلان عن أن الخاطفين يطلبون 400 ألف دولار أميركي للإفراج عن المخطوف. ولكن هل تبقى العملية محصورة ضمن هذا الإطار؟ أم أنّها ستسلك مساراً آخر يكشف الهدف الحقيقي للعملية وما إذا كانت رسالة موجهة إلى المملكة العربية السعودية في لبنان ولو عن طريق «عصابة» مسلحة؟
في المعلومات التي توفرت حول العملية أنّ الخاطفين كانوا يرتدون زياً أمنياً عسكرياً للتمويه، وأنّ المخطوف سعودي مقيم في منطقة عرمون في قضاء عاليه. وأنّه كان يتناول طعام العشاء في منطقة وسط بيروت البحرية وخُطف وهو عائد إلى منزله، وتمّ رصد حركة هاتفه من أكثر من منطقة. ولكن ما لم يكشف هو ما إذا كانت هناك هواتف يستخدمها الخاطفون متلازمة مع حركة هاتف المخطوف لأنّ مثل هذا الأمر يعني الكثير للتحقيق وللخلفيات، ومن خلاله يمكن معرفة ما إذا كان الخاطفون هواة أم محترفين لم يستخدموا أي هواتف. فعملية الخطف بحد ذاتها تدعو إلى التساؤل حول اختيار هذا الهدف وحول التحضير اللازم للعملية بشكل احترافي، وحول ما إذا كان المطيري ليس مجرد موظف طيران فقط، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يخفى على التحقيق وإن كان ليس من الضروري أو الحتمي، أن يتم الكشف عنه.
على رغم أنّ عملية الخطف لم تكن سرية باعتبار أنّ اتصالات الخاطفين كشفتها سريعاً لطلب الفدية، ولكن السفارة السعودية والأجهزة الأمنية اللبنانية عتّمت على الموضوع الذي لم يتم الكشف عنه إلا بعد نحو 24 ساعة على حصوله. ولكن ما حصل ربطاً بهذه القضية كشف أنّ السفارة السعودية تعاطت مع العملية وكأنّها ليست عملية عادية. ولذلك طلبت المملكة العربية السعودية، كرد فعل فوري، من دبلوماسييها في بيروت البقاء في منازلهم بعد التأكد من أنّ طلب الفدية جاء عبر مكالمة هاتفية وردت من الضاحية الجنوبية بعد وقت قليل على عملية الخطف، التي قيل إنها حصلت في منطقة «الزيتونة باي» على الواجهة البحرية لبيروت. وبحسب المعلومات التي سُرِّبت سريعاً فإنّ المواطن السعودي يعمل لشركة تعمل لمصلحة الخطوط الجوية السعودية، وكان يقود سيارة من نوع «غراند شيروكي» عليها لوحة لبنانية ومسجّلة باسمه.
تهديدات سابقة
ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها المصالح السعودية في لبنان لمثل هذه الإعتداءات. وليس السفير البخاري هو السفير السعودي الأول الذي يواجه مثل هذه التحديات. قبله كان السفير عبد العزيز خوجة قد تعرّض للتهديد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبالتزامن مع التحضير لإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وباغتيال الرئيس الحريري ومع عملية 7 ايار 2008 في بيروت والجبل، وغادر لبنان إلى المملكة. ومثله تعرّض السفير علي عوض عسيري للتهديد أيضاً في أكثر من مرة بعد بدء الأحداث الدامية في سوريا واتهام المملكة بدعم القوى المعارضة للنظام السوري.
في أيار 2013 كان السفير عسيري قد غادر لبنان إلى بلاده لأسباب أمنية وفي حزيران من العام نفسه دعت المملكة رعاياها لمغادرة لبنان. وفي 31 آب من ذلك العام تلقت المملكة رسالة مباشرة من خلال اعتراض سيارة تابعة لها في منطقة غاليري سمعان عند مدخل الضاحية الجنوبية اتهمت عناصر تابعة لـ»حزب الله» بالقيام بالعملية، وعلى أثر ذلك اعترض السفير عسيري، الذي كان عاد إلى بيروت على رغم المخاطر الأمنية، لدى وزير الخارجية عدنان منصور، واعتبر أنّ ما حصل انتهاك للأعراف الدبلوماسية. وعندما حصلت عملية التفجير الإنتحاري المزدوج قرب السفارة الإيرانية في بيروت في 19 تشرين الأول 2013 اتهم «حزب الله» المملكة بالوقوف وراءها. بعد هذا الإتهام دعت المملكة رعاياها مرة جديدة إلى مغادرة لبنان، كما أنّ السفير عسيري غادر أيضاً وبقي في بلاده. وزادت العلاقة بين المملكة و»حزب الله» توتراً بعد التفجير الإنتحاري الثاني الذي استهدف المستشارية الثقافية الإيرانية في بيروت في 19 شباط 2014 ثم بعد بدء عاصفة الحزم السعودية في اليمن في العام 2015.
أين اتفاق بكين؟
كان من المنتظر أن ينعكس الإتفاق السعودي – الإيراني في بكين سلاماً على العلاقة بين المملكة العربية السعودية و»حزب الله» في لبنان. ولكن يبدو أنّ الوضع لم يكن كذلك. فحركة السفير السعودي وليد البخاري المتعلّقة بالعمل على خط انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان ربّما أربكت «الحزب». صحيح أنّ الثنائي الشيعي حاول بعد اتفاق بكين أن يوحي بأنّ المملكة قدمت التنازلات في ملف الرئاسة، وترافق هذا الأمر مع الترويج بأنّها رفعت الفيتو عن ترشيح مرشح «الثنائي» سليمان فرنجية للتأثير على عدد من النواب الذين يتأثرون بموقف المملكة.
الصحيح أيضاً أنّ المملكة لم تُعلن أنّها تحارب ترشيح فرنجية وفي الوقت نفسه أعلنت أنّها لن تعمل على دعوة النواب أو الكتل إلى انتخابه، وأنّها في النتيجة تتعامل مع الوقائع كما هي، ربطاً بنظرتها إلى المواصفات التي تريدها في رئيس الجمهورية الذي سيُنتَخب وهي حدّدتها دائماً بأنّه يجب أن يكون سيادياً وإصلاحياً وغير متّهمٍ أو مرتبطٍ بقضايا فساد. وهي لذلك لم تماش الرغبة الفرنسية بدعم ترشيح فرنجية.
ضمن هذا الجو استجد اتفاق معظم الأطراف المعارضين لترشيح فرنجية مع «التيار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل على تبنّي ترشيح الدكتور جهاد أزعور. هذا الإتفاق يبدو في ظاهره مسألة عادية تتماشى مع دعوة الثنائي الشيعي هذه الأطراف إلى الإتفاق على مرشح يواجه فرنجية، وعلى أساس ذلك الإتفاق وعد الرئيس نبيه بري بالدعوة إلى جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية لا تكون فولكلورية. ولكن يبدو أنّ الإتفاق على تبني ترشيح أزعور غيّر المعادلات لدى الثنائي الشيعي.
في المعلومات التي ربما قد تكون وصلت إلى هذا الثنائي أنّ الموقف السعودي لم يكن ربما حيادياً تجاه هذا الترشيح. إذ إنّ بعض ما تسرب عن لقاءات السفير البخاري مع نواب من كتل مترددة تنتظر الموقف السعودي، يفيد أنّ المملكة لا تضع فيتو على فرنجية ولكنها لا تدعو إلى انتخابه، وفي الوقت نفسه هي مع أن يتم انتخاب المرشح الذي يمكن أن تتفق عليه أطراف المعارضة مع «التيار الوطني الحر».
أزعور والحملة عليه
لم يأت الإتفاق على ترشيح أزعور من فراغ. فاسمه كان قيد التداول انطلاقاً من رغبة شخصية لديه، قبل أن يطرحه رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» المستقيل وليد جنبلاط وباسيل نفسه. وكان أزعور قام بطلّات استطلاعية مبكرة إلى لبنان، وأجرى لقاءات بقيت خارج الإعلان عنها رسمياً، وكان آخرها الأسبوع الماضي قبل أن يغادر لبنان الأحد في ظل تصاعد الحملة عليه وتهديده، ومن دون أن يتأثّر بها أو يتراجع عن ترشيحه.
كان محور الثنائي الشيعي لا يزال يراهن على أن باسيل لن يجرؤ على السير بتبنّي أزعور وأنّه لن يتجاوز الخط الأحمر المرسوم له. ولكن يبدو أنّ طريقة مقاربة الثنائي لهذا الأمر جعلت باسيل يذهب أكثر في هذا الإتجاه، خصوصاً مع محاولة اختراق صفوفه داخل «التيار» وتكتله النيابي، الأمر الذي سيَحمِله على حسم هذا الأمر داخلياً. واستُكملت الحملة على أزعور من خلال محاولة خطف ترشيحه والإيحاء بأنّه لا يجرؤ، أو لا يريد، أن يكون مرشّح مواجهة مع الوزير السابق سليمان فرنجية.
وهذا ما أوحى به بعض المحسوبين على محور الممانعة، وهو ليس صحيحاً على الإطلاق. فأزعور الذي يمتنع عن الرد شخصياً على هذه الحملات بحكم وظيفته كمدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، لن يتراجع عن ترشّحه بعدما حصل على هذا التأييد الواسع والتوافق المسيحي الأكبر حوله. وهو لذلك يحضِّر للمرحلة الثانية من تأمين الطريق نحو انتخابه. وهو في الأساس لم يطرح نفسه كمرشح تحدٍّ، بل بدأ طريقه من خلال الإنفتاح على محور الممانعة، ومن خلال لقاءات عقدها مع الرئيس نبيه بري، وربما مع مسؤولين في «حزب الله»، خصوصا أنّه ليس له مواقف صدامية سابقة مع هذا المحور.
فعملية ترشّحه أتت من مكان بعيد واستطاع أن يجتاز مسافة طويلة، وقرّبه الإتفاق عليه من الهدف. وإن كانت معركة الترشيح صعبة فإنّ معركة الإنتخاب تبقى أصعب. فبحسب الأجواء المعاكسة له، يبدو أنّه من شبه المستحيل أن يحدّد الرئيس بري موعداً لجلسة منازلة بينه وبين فرنجية طالما أنّ بري مع «حزب الله» يخشيان أولاً أن تؤدي هذه الجلسة إلى تطيير ترشيح فرنجية، كما يخشيان أن تؤدي إلى فوز أزعور بحكم استطلاعات التصويت النيابية التي يقومان بها، وبالتالي يضطران معها إلى تطيير النصاب وتحمل مسؤولية استمرار الفراغ.
هذا التعطيل المتعمد والمستمر يزيد من الهواجس الأمنية التي لن تكون عملية خطف السعودي مشاري المطيري آخرها قبل أن تكشف التحقيقات كامل فصولها وما إذا كانت بحجم عصابة أم أكثر.