ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل بشكل دراماتيكي، وفي غياب أي حلول أو مؤشرات إيجابية، يشي بأن الأسوأ لم يأت بعد، وبأننا مقبلون على كارثة اجتماعيّة قد تتطلب معالجتها عشرات السنوات. مسار جهنمي لن ينتج عنه إلا موجات غير مسبوقة من الهجرة، وبطالة لا نظير لها
عام 2018، وعد الرئيس سعد الحريري اللبنانيين بأن مؤتمر «سيدر» سيوفر لهم أكثر من 900 ألف وظيفة وفرصة عمل. بعد أقلّ من ثلاث سنوات، أصبحت الخشية من أن يصل عدد العاطلين عن العمل إلى مشارف الـ 900 ألف، من دون احتساب من باتوا يعملون بنصف راتب أو بربعه… أو من لم يقبضوا رواتبهم منذ أشهر.
مسح القوى العاملة والأحوال المعيشية للأسر في لبنان الذي نفّذته إدارة الإحصاء المركزي لعام 2018 – 2019، بيّن أن عدد القوى العاملة يصل إلى مليون و794 ألفاً (21.3% منهم غير لبنانيين، و3,5 أو ما يعادل 55100 شخص يعملون في أكثر من وظيفة). وتنقسم القوى العاملة بدورها إلى فئتين: العاملون وعددهم نحو مليون و590 ألفاً، والعاطلون من العمل الذين بلغ عددهم حوالى 203 آلاف.
المسح الذي أجري بين نيسان 2018 وآذار 2019 (قبل 7 أشهر من الحراك الشعبي في 17 تشرين وتدحرج الانهيار الاقتصادي) أظهر أن مؤشرات الأزمة وحال الشلل التي أصابت الاقتصاد كانت واضحة وغير مفاجئة. فقد قفزت معدلات البطالة عند الفئة العمريّة 15 – 24 عاماً من 18% عام 2012 إلى 23.3% عام 2018. وترافق ذلك مع تضاعف أعداد المهاجرين، من «33 ألف مهاجر عام 2018 إلى 66 ألفاً عام 2019» بحسب «الدوليّة للمعلومات».
كما تشير إحصاءات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى أن «عدد الأجراء الجدد المسجّلين في الضمان، والذي كان دائماً أعلى من عدد الأجراء الذين تركوا العمل، بدأ ينكمش تدريجياً في السنوات الثلاث الأخيرة وصولاً إلى تحقيق رصيد سلبي في النصف الأول من عام 2020 بلغ 9012 أجيراً». («الأخبار»، الإثنين 29 حزيران 2020).
يصعب حصر أعداد العاطلين من العمل حالياً بدقة لأسباب عدة، أبرزها مشكلة تحديد حجم المصروفين في سوق العمل غير النظامية (من لا يصرح عنهم أصحاب العمل) وانعكاسات فيروس كورونا وانفجار المرفأ والتفاوت في النسب بين الإحصاءات الرسمية والدراسات الخاصة. إلا أن الباحث في «الدولية للمعلومات»، محمد شمس الدين، يؤكد أن المؤشرات تتحدث عن حوالى «450 ألف عاطل من العمل حالياً، وهو رقم مرشّح للارتفاع إلى 700 ألف مع اشتداد الأزمة وتواصل انهيار سعر صرف الليرة ورفع الدعم عن بعض القطاعات». واقع سيؤدي، بالتالي، إلى ارتفاع أعداد المهاجرين بشكل لا مثيل له. «فعام 2020 لم يهاجر إلا 17700 شخص بسبب كورونا وإقفال المطارات حول العالم وعدم توفر الدولارات. ولولا هذه العوائق لكنا سجّلنا أكثر من 100 ألف مهاجر من مختلف الشرائح الاجتماعية والمناطق والطوائف».
المقارنة بين أرقام العاطلين من العمل في المسح الذي أعدّه الإحصاء المركزي وأرقام «الدوليّة للمعلومات» تبيّن أن حوالى 250 ألف وظيفة فُقدت خلال سنتين تقريباً، وبأن الرقم قد يرتفع إلى حوالى 500 ألف وظيفة في حال صحّت التوقعات الأكثر تشاؤماً.
يُقدّر عدد العاطلين عن العمل بحوالى 450 ألفاً ويُتوقّع أن يرتفع إلى 700 ألف
وبحسب المعطيات، فإن سوق العمل لم يكن يولد أكثر من 4 آلاف فرصة عمل سنوياً (بعض الدراسات تتحدث عن نصف هذا العدد) أو «سبعة آلاف فرصة في أحسن الأحوال بين القطاعين العام والخاص» بحسب شمس الدين. من المؤكد أنه لم يعد يمكن الركون إلى هذه الأرقام في ظل الانهيار الاقتصادي الشامل وإفلاس مئات الشركات في مختلف القطاعات. لكن، في حال افترضنا أن الاقتصاد قادر على خلق 3 آلاف فرص عمل، وهو رقم وسطي بين الحدين الأدنى والأقصى لفرص العمل التي يُقدّر بأن الاقتصاد يولدها، نكون حسابياً بحاجة إلى 83 عاماً لتعويض الوظائف التي فُقدت، أو 166 عاماً لتعويض الوظائف التي فُقدت والتي يُرجح أن تفقد.
ما الحل إذاً؟
يجزم رئيس حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، شربل نحاس أنه «لا يمكن فعل أي شيء في ظل الوضع الراهن. وأساساً من هم الذين سينتشلون البلد من أزمته؟ لا توجد دولة والبلد فرط». أما النتيجة فهي «المزيد من الهجرة، ومن سيبقى سيعيش بالقلّة، ما قد يزيد من التفلت الأمني والسرقات واحتمال بروز الميليشيات من جديد، كونه سيصبح من الأسهل استغلال هذه الشرائح الضخمة العاطلة من العمل».
بحسب الخبير الاقتصادي دان قزي، «المسألة قد لا تتطلب بالضرورة كل هذه المدة الزمنية لإعادة توليد فرص عمل، شرط أن نتطور كأفراد وكاقتصاد بشكل عام. فاقتصادنا القديم المبني على الريع والتسوّل انتهى وبات علينا أن نجد مكاناً لنا في الاقتصاد العالمي، وأن نستثمر في مكامن القوة التي تميزنا عن غيرنا. وبالتالي يجب توجيه العقل نحو الابتكار والإبداع عوض التفكير في الربح السهل والعمل في الريع والعقارات وغيرها». أما «الحديث عن تحولنا إلى اقتصاد زراعي فغير واقعي. علينا تشجيع الزراعة لكن من باب الأمن القومي كي لا نجوع وهذا يختلف جذرياً عن تحولنا إلى بلد زراعي. الأمر عينه ينطبق على الصناعة. بالطبع، لا مانع في أن نتحول إلى دولة مصنّعة للسيارات ككوريا الجنوبية، لكن هذا الأمر مستبعد». أما الحلول التي يجب التركيز عليها فهي «الاهتمام بالفن والتكنولوجيا وهي مجالات نبرع فيها وتركنا فيها بصمة إقليمياً وعالمياً خصوصاً في قطاعات كاقتصاد المعرفة والموضة والتطبيقات الهاتفيّة والهندسة والإعلام».
«الكارثة يمكن أن تحسّن الخلل الموجود في سوق العمل وتحديداً في القطاع العام، حيث نصف الموظفين بلا إنتاجية وكان يمكن الاستعاضة عنهم بحكومة إلكترونية»، بحسب الخبير الاقتصادي جهاد الحكيّم، مشدداً على أن «اقتصاد المعرفة قادر على توفير فرص عمل للكثير من الشباب لناحية العمل أونلاين لمصلحة شركات أجنبية، خصوصاً أن قدرتنا التنافسية كبيرة في هذا المجال وكلفة اليد العاملة تراجعت».
لكن ماذا عن مصير الأفراد الذين لا يملكون مؤهّلات في مجال اقتصاد المعرفة، أو أصحاب المهارات البسيطة والمياومين وغيرهم؟
يؤكد الحكيّم أن «العديد من الوظائف في القطاع الخاص ستُفقد، كما في القطاع المصرفي على سبيل المثال. أما الصورة الواقعية فستكون على الشكل التالي: فئة كبيرة ستهاجر وستشكل النسبة الأكبر من العاطلين من العمل، وفئة ستعيش بمستوى أقل، وفئة سيزيد اتكالها على المغتربين، ورابعة ستنجح في تطوير مهاراتها الوظيفية لتتأقلم مع الواقع الجديد». فيما يلفت قزي الى أن «من لا يملكون أي مهارات يمكن للدولة أن تساعدهم لفترة لكن لا يمكن أن تدعمهم إلى ما لا نهاية». وأحد الأمثلة البسيطة على تطوير المهارات «سائقو تطبيق أوبر، تحديداً كبار السن منهم الذين تعلموا كيفية التعامل مع التكنولوجيا وقراءة خرائط غوغل. إذاً ليس المطلوب أن يصبح الجميع علماء وتقنيين. خرّجنا الكثير من المحامين والأطباء والمهندسين بما يفوق حاجتنا، ووصلنا إلى مرحلة لم يعد يرضى فيها اللبناني بالعمل في وظيفة عادية. في النهاية من يحتاج فعلاً إلى العمل سيقبل من الآن فصاعداً بالوظائف المتاحة».