لا تدفنوا رسالتها مع جسدها
يا الله، يا لها من لحظات، يا لهذه الحقيقة النهائية في حضرة الموت. جوسلين ها هنا. ا. العيون شاخصة في اتجاه واحد، صوب النعش، الى السيدة المسجاة بكثير من الوقار. الدنيا، بجد، فانية ولا يبقى منها إلا الصدى، صدى من يعرف أنه سيُقال عنه في يوم ما: مات… ماتت… جوسلين خويري ماتت والبارحة كان إكليلها.
رهيبة ٌ هي هذه المرأة، فهي حققت في مماتها ما لم يحققه كثيرون في حياتهم. هي أعادت ضخّ الدم في أضلع الكثيرين وجعلتهم يستفيقون الى تاريخ، الى ضرورات، الى بطولات. وجعلتهم يتأكدون، من جديد، أن الهروب أسهل فعل أما المواجهة، في سبيل الوطن، فقوة هائلة. هي واجهت باسمِ الوطن والوجود والحب. أحبّت ودافعت وواجهت وصمدت وتألمت لكنها لم تتخل يوماً عن إبتسامتها التي رافقتها حتى النعش، حتى القبر، حتى اللحد.
البارحة، قبل أن يرمي تموز آخر ورقاته، وبينما كانت تتلوى في سريرها الأبيض وتذرف دموعاً غزيرة، بدا جسدها منتفخاً جداً ووجهها النحيل إستدار كثيراً بفعل علاجات الخبيث وإبر المورفين. مضى عليها أكثر من عشرين شهراً على هذه الحال، وكانت طوال الوقت، بحسب زوج شقيقتها فريد باسيلا، تصلي وتتلو المسبحة وترتل “يا أم الله”. وظلت هكذا حتى العشرين من تموز، يوم أدخلت المستشفى شبه غائبة عن الوعي، لكن عينيها ظلتا تتحركان الى أن دخلت قبل أربعة أيام من موتها في الغيبوبة. لكن “البنات”، رفيقاتها، استمرينَ بتلاوة “يا أم الله” الى جانبها. هنّ، مثلها، قويات.
“الريسة” جوسلين تألمت كثيراً في أيامها الأخيرة، قبل أن تفقد الوعي، وكانت تصرخ بكل جوارحها، بصوتٍ عالٍ جداً “يا أمي”، لتعود وتعض على شفتيها وتبتسم مرددة “الحياة مش أوتوستراد”.
حين توفيت جوسلين أصبح وجهها، أزرق أسود، وتغيّر لون ذراعها اليمنى، لكن، ما إن لفظت انفاسها الأخيرة حتى حلّ السكون على وجهها وأصبحت، بحسب رفيقاتها، كما الملاك. وعاد وارتسم على وجهها نفس الهدوء الذي عهده عارفوها.
الورد الأبيض، النقي، فوق نعشها العسلي وترنيمة تعشقها انبعث صداها في الكنيسة: “يا أم الله يا حنونة يا كنز الرحمة والمعونة، أنتِ ملجانا وعليكِ رجانا، تشفعي فينا يا عذراء وتحنني على موتانا”. سُجي جثمان جوسلين في دير الراهبات الكرمليات الحبيسات في حريصا، حيث لا قرار اتخذته إلا بعد سجود لها هناك. وهناك ألبستها الراهبات، قبل أن تنقل الى كنيسة مارسمعان في بلدتها الأم غوسطا، الإسكيم الأسود. تكرست جوسلين الخويري في نذرٍ أبدي في رهبنة الكرمل. وفي الأبدية لا يضيع أي شيء.
أمين الجميل شارك في مأتمها. كتائبيون، قواتيون، تيار وطني حرّ، معارضة، موالاة، أخصام، أحباب، جلسوا على ذات المقعد في كنيسة ماراسطفان العمودي في غوسطا. وهذه إشارة جديدة من إشارات السماء الكثيرة بأن مماتها قد يؤسس الى نواة ثورة هادئة، من نوع آخر، عنوانها أن خلاص لبنان لن يكون إلا بالإنضواء وراء جبهة واحدة وحيدة جبهة أم الله مريم العذراء.
لم يبكها الأشقاء سامي ونزيه وفادي وغبريال وبيار والشقيقة سامية وحدهم بل فعل ذلك كل من عرفوها، ومن لم يعرفوها إلا اليوم. نجحت جوسلين الخويري دائماً في اختراق الجمود وتحويل بعض الشرّ، في كثير من المطارح، الى خير. جوسلين، بدت البارحة كما الملاك وهي الذاهبة الى ملاقاة “الباش” والبابا جان بول الثاني وأم سامي وأبو سامي ورفاق ورفيقات وجوسلين خويري الصغيرة، إبنة شقيقها فادي، التي رحلت قبل عامين وظنها كثيرون هي. كانت على إسمها وكانت النعمة التي أرسلتها لهم العذراء وتعاني من إعاقة خلقية. كانت جوسلين الكبيرة تعاملها كوالدة، تأخذها دائماً الى القداس، وتتعامل معها كفتاة عادية في عالمٍ لا يُحسن التعامل مع ذوي الإحتياجات الخاصة. وها قد أصبحتا جوسلين وجوسلين معاً من جديد.
وعدوها البارحة أن تبقى شعلتها، كما ارادت، مضاءة. والشعلة التي نذرت لها نفسها بسيطة: حبّ العذراء، ومن يحب العذراء يحبّ الإنسان، ومن يحب الإنسان يُصبح لحياته معنى مختلف. كلامٌ كثير سمعناه البارحة، وقبله وقبل أسبوع، ومنذ دخلت “الريسة” في الغيبوبة عن مآثر تلك الصبية. ومن تابع مسار عبورها من الأرض الى السماء، في هذه المرحلة الدقيقة في لبنان، أيقن أن الله قد تدخل من أجل إعادة ترسيخ المسيحيين في لبنان بالجذور، بلبنان، وتذكير من يفترض أن يتذكر أن البندقية ليست غاية بل كانت ويفترض أن تبقى وسيلة.
يا مريم يا إم النور عمبندهلك من قلبي… ترتيلة اخترقت القلوب فأدمعت العيون. فؤاد أبو ناضر تهدج صوته تأثراً مراراً. بيار أبو عاصي بدا متأثراً. ومثله ريشارد قيومجيان. ندى البستاني أتت بالنيابة عن جبران باسيل. مثلته في المأتم. سامي الجميل لم يحضر بسبب سفره. نديم الجميل حرص على الوقوف مراراً قرب النعش. حبيبات المسبحة دارت مراراً بين أيدي “البنات”، رفيقات جوسلين اللواتي التزمن نفس القضية. والإنسان هو في نهاية الأمر قضية.
هناك، في السماء، موت التعب وموت الألم وموت الحقد وموت الحرب وموت الجوع وموت المرض وموت الخبيث… جوسلين خويري، العلامة الفارقة على درب المقاومة المسيحية، ماتت. ومن يموت مع العذراء يربح الأبدية.
جوسلين خويري، لا تدفنوا اسمها مع جسدها بل تمعنوا قليلاً في سيرتها، وفي توقيت موتها، وفي قدرتها على جمع من لا يسهل جمعهم وحينها ستدركون أن ثمة موتاً ارتداداته حياة.