«نحن مسيحيّون نقاتل من أجل لبنان، لأنّ لبنان يمنح وجودنا الحريّة والشرف على المستوى المسيحي». كلمات لجوسلين خويري تختصر معاناة المسيحيين في لبنان، وجزءاً أساسياً من حياتها وحياة آخرين وأخريات ممّن ضحّوا واستشهدوا من أجل لبنان.
محور القضية كان الحريّة بكلّ أبعادها. تلك الحرية التي لجأنا في سبيلها إلى المغاور والكهوف ليَسلَم لنا الإيمان بالله وعبادته على طريقتنا، كما قال عنها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير.
تلك الحريّة التي لا قيمة لأيّ وجود من دونها، حملت جوسلين خويري بندقيتها دفاعاً عنها وعن الوجود والهوية يوم أُقفلت كل أبواب الحوار والتفاوض والإقناع.
التجربة كانت مرّة. والمرارة القصوى عندما تَفرض الظروف ما لا نريده ولم نَرده يوماً. أن نحمل السلاح دفاعاً عن وجودنا يعني أنّ أمم الأرض اجتمعت لإنهاء هذا الوجود، وهذا لم ولن يقبله المسيحيون.
ليس ترفاً أن يحمل الشبّان والشابات البندقية ويتركوا عائلاتهم ليدافعوا عن الأرض. ليس هناك أيّ شر في عقيدتهم ولا أيّ مشروع شمولي ليقوموا بفتوحات أو يحاربوا لاستعادة أمجاد مفقودة. كان همّ المسيحيين أن يَسلموا أينما وجدوا على هذه البقعة الجغرافية أسوة بغيرهم من مكونات الوطن. كان همّهم أن يعيشوا حريّتهم بعيداً عن كل ألوان الذميّة، في وطن اسمه لبنان. فلبنان والحرية توأمان لا يفترقان.
جوسلين واحدة من آلاف حملوا السلاح «تَ تضَل جراسنا تدِق». وظاهرة جوسلين تتخطى تلك الصورة التي كسرت حكر القتال على الرجال، كانت أعمق من ذلك بكثير.
شددت على أنّ واجبنا اليوم أن نقوم بتنقية الذاكرة، التي هي الطريق نحو مسامحة الآخر بعد نيلنا السماح من المخلّص الآب. فلا مساحة مشتركة بين شركاء الوطن يتلاقون حولها إلّا بالمصارحة والخروج من هواجس الماضي السوداء، والبناء نحو المستقبل. وهذا البناء إن لم تكلله المحبة والمسامحة فعبثاً يتعب البنّاؤون في بناء الوطن والجمهورية.
تنقية الذاكرة من أجل طَي الصفحة القديمة والبدء بصفحة تحقيق العيش المشترك، الذي هو نتيجة مسار تراكمي، وعمل إيماني يومي مُضن، لبناء الثقة المتبادلة بين جميع اللبنانيين بكافة انتماءاتهم السياسية والطائفية.
أكدت تجربة جوسلين والرفاق الآخرين أنّ لبنان لا يقوم إلا بجناحيه، المسيحي والمسلم. بدولة حقيقية، تحمل نظاماً يحمي المسيحيين في حريتهم، والمسلمين في هواجسهم. على ان تكون عقيدة وأفكار هذه الدولة والسلطة قائمة على شعار «لبنان أولاً».
والتجربة أكدت وتؤكد أن لا احد يريد ان يمحو شعور أو التزام أيّ جماعة سياسية أو دينية في لبنان بامتدادها الخارجي اذا رأت هذا الامتداد طبيعياً وأساساً لتكوينها، شرط ألّا يتعارض هذا التكوين مع المصلحة الداخلية اللبنانية، وألّا يحمل أجندة تتخطى الحدود والجغرافيا اللبنانية. فلا ضير أن يشعر المسلم السنّي بارتباطه بالسعودية مثلاً، ولا ضير أن يشعر المسلم الشيعي بارتباطه بمرجعية النجف أو قم، إنما الضرر هو حمل أجندة الخارج وتحويل لبنان إلى ساحة تختلط فيها الأجندات كما هو حاصل اليوم، فنفقد الهوية والجمهورية والوطن.
من هنا، تجربة جوسلين وكل المقاومين إلى أي جهة انتموا أن يكونوا قلباً وفكراً وممارسة يتقنون مبدأ الحياد، ما أعنيه «الحياد البطريركي».
تجربة جوسلين الحزبية وللأسف لم تلق صداها على مستوى الممارسة الحزبية. أيقنت أن لا مجال إلا بأحزاب ديمقراطية، تخرج من منطق الشخص إلى منطق المؤسسة، بكلّ أدبياتها الحرّة وغير المقيّدة.
هي المناضلة والمقاومة التي جمعت «الكتائب» و«القوات» معاً، في مسبحة واحدة، في صلاة واحدة، في قيَم واحدة، وأصول واحدة، وفي «بدلة زيتية» واحدة. أكدت انّ لبنان الكيان الذي رسمه أجدادنا الموارنة، مسؤولون عنه، جميعاً كمسيحيين وموارنة تحديداً، لأنهم هم مَن أعطوا الكثير لذلك يُطلب منهم الكثير، كما يقول المفكّر شارل مالك. لا يمكن بناء وطن مع الشريك والبيت الداخلي مُزعزع، علينا قبل كل شيء أن نعترف معاً، ونصوّب وجوهنا نحو الله، ونطلب السماح، وننطلق مجدداً، قوة واحدة، وكتائب واحدة، وفريقاً مسيحياً واحداً، قوياً، نحو بناء لبنان الذي حلم به شهداؤنا وبشير ويحلم به الأجيال.
رحلت جوسلين، وتركت خلفها رسالة تختصر بـ4 كلمات: «تنقية الذاكرة والنقد الذاتي»، وإلّا سيحاسبنا التاريخ والأجيال.