حين تحمل المرأة البندقية وتُطلق نيرانها وتُردي “العدو” في سبيل الوطن والمبادئ والجماعة والبقاء، تكون إمرأة مقاومة. هي واحدة من نساء مناضلات رفضن ما كان يُكتب للوطن وكتبن بالإيمان والبندقية ما قرّرنَ. هي جوسلين خويري، وهنّ رفاق جوسلين خويري في المقاومة المسيحية. فلنقرأ في قصة واحدة من أبرز النساء المقاتلات في المقاومة المسيحية ممن اختبرنَ طعم الموت وعزاء السماء؟
جوسلين خويري بين الحياة والموت. والشجعان، كما هي، يموتون مرة واحدة. جوسلين خويري دخلت في غيبوبة بعدما اقتحمت الحياة، ناضلت، قاومت، دافعت، إستبسلت، صلّت، تضرّعت، آمنت وسلّمت حياتها الى العذراء. هي محاطة اليوم برفيقاتها المقاتلات اللواتي يرتّلنَ فوق رأسها ويتلونَ ما تحب: السلام عليك يا مريم يا ممتلئة نعمة الرب معك مباركة أنت بين النساء… فليس هناك وصفة تُهدئ النفس، حين يشتد الوجع ويتصاعد الألم، كالصلاة.
قبل أن تدخل جوسلين خويري غيبوبة الحياة كتبت “صلاة الشهيد”: “باسم الآب والإبن والروح القدس الإله الواحد آمين. أيها الرب يسوع يا شهيد الشهداء الذي فاضت محبته على خشبة الصليب حياة جديدة للبشر، نسألك أن تحوّل دماء شهدائنا، بقوة سرّ العذراء، الى ينابيع خلاص تروي أرضنا بالمحبة وتثبت شعب لبنان في رسالته الفريدة كشاهد للحرية والسلام”.
كثيرون يعرفون جوسلين خويري لكن قلة تعرف أن تلك الفتاة النحيلة التي حملت البندقية كانت تريد أن تتكرس للرهبنة، أن تصبح راهبة، “برمت من دير لدير” لكن إشارة من السماء أتتها لتقول لها: مهمتك خارج الدير ليست أقل من مهمتك فيه. وكان ما كان.
جوسلين خويري تألمت كثيراً، في مراحل عدة، لكنها الآن، وهي تدنو من باب السماء، إستراحت. إنها المرأة المقاتلة التي أمسكت البندقية بيد والمسبحة في اليد الثانية. وإذا كان القتال، في أحيانٍ كثيرة، ضرورة، فإن السلام، حين يمكن، إختيار حكيم. وهي اختارت السلام بعد قتال. فهل كُتب لها ما عاشت أم أن الله هو من يُرسل إشاراته الى الإنسان ويترك له الخيار؟
قبل زمن، قبل أربعة عقود وأربعة أعوام، حملت الصبية الجميلة بندقية الكلاشنيكوف وقعدت خلف أكياس رمل المتاريس، وخاضت مواجهات مباشرة دفاعاً عن الأرض. ظنّت يومها أن الحرب ستدوم يوماً أو يومين، شهراً أو شهرين، لكنها طالت كثيراً. وواجهت فيها الموت، تحدّته، وانتصرت عليه. ورفيقاتها، رفيقات العمر اللواتي واجهن معها، يتذكرن اليوم كثيراً ذاك اليوم الذي أعطاهم فيه الربّ أول إشارة بأن “كسب المعركة لا يحدده مقدار ما نقتل من خصومنا لكن مقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل”. هنّ لم يكنّ راغبات في القتل. حاولن تجنبه. لكن حين يجدن أنفسهن، كما ذاك اليوم، في السادس من أيار العام 1976، ست فتيات يافعات مطوقات من مئات المقاتلين، في وضعية قتالية سيئة جداً، وينجحن في التغلب على “العدو”، يدركن أن ما حصل كان إشارة بحضور الله دائماً، حتى على الجبهات القتالية، ليحمي من يدافع ولا يعتدي. هنّ كنّ يدافعن عن الأرض التي هناك من يحاول الإستيلاء عليها.
إشارات الربّ كانت كثيرة في حياة جوسلين ورفيقاتها. هناك من قد يبتسم في سره، ساخراً من كلام هؤلاء الفتيات اللواتي أصبحن اليوم نساء ناضجات، عن “إشارات السماء”، ولو أتيح لجوسلين أن تجيب هؤلاء الآن، وهي في الغيبوبة، لقالت ما رددته رفيقاتها وقاله ذات زمان جلال الدين الرومي: كونوا ممتنين لكل ما مرّ ويمر في حياتكم لأن كل ما يمرّ بكم يحمل إشارة من الله. وهذا ما كان.
الله حاضر دائماً يتدخل في كل المطارح. والله تدخل في حياة الصبايا، في حياة جوسلين ورفيقاتها، اللواتي اندرجن في صفوف “الكتائب اللبنانية”، مع بدايات الحرب اللبنانية، في سبعينات القرن الماضي. لم يلبسن الفساتين والدانتيل والزمرد والماس ولم ينتعلن الكعب العالي ولم تقتصر أحلامهنّ على مجيء فارس، على صهوة حصان أبيض، بل ألحّ عليهنّ الحلم بلبنان مستقلّ، وببيئة آمنة، ومجتمع مقاوم قادر أن يدافع عن أرضه وحدوده ولبنانه. هؤلاء، كنّ فتيات من نوع خاص جداً تليق بهنّ الأوطان والكرامات والعنفوان. هؤلاء كنّ مقاتلات الصفّ الأول وتلتهنّ نساء مقاومات أخريات تنحني الرؤوس لهنّ.
جوسلين ورفيقاتها انخرطن في مواجهة المعتدي بين عامي 1975 و1985. جوسلين كانت يومها تدرس الصحافة في الجامعة اللبنانية لكن “الأحلام لا تترك لنا رفاهية الإختيار”، وأحلام الصبية الرشيقة الجميلة كانت بحجم لبنان. تدرّبت. برعت في استعمال سلاح الإشارة. وأصبحت أسلحة الكلاشنيكوف والآر بي جي والدوشكا طيّعة بين يديها. وعمدوا الى مناداتها “ريسة”. غدت الصبية “ريسة” تقود مئات المقاتلات وتواجه مئات المسلحين الفلسطينيين والسوريين باستبسال قلّ نظيره. هؤلاء، هي وهنّ، لم يرغبن في تنشق رائحة الدم لكن شجاعتهنّ منعتهنّ من حمل حقائبهنّ والهروب فواجهنَ.
يشهد كل حجرٍ وجدار وساحة ومعلم في أسواق بيروت على شجاعة “الريسة”، ودائماً في سبيل الدفاع عن الحقّ والعدالة والبقاء. شجاعة هي، وطالما اقتنعت أن “لا يصيبنا إلا ما كتب لنا”. لم تفرّق بين دين ودين، وبين طائفة وطائفة، ولم تبالِ إلا بالحقّ في الوجود والعيش بأمان وسلام في كنف “العذراء مريم”. هذا لا يعني أن حياة المقاتلة خلت من شوائب وهي التي كررت مراراً: “قطعت بأغلاط وبنعمة الله تجاوزتها”. وهي أبت دائماً أن تحبس نفسها في ماض وأحداث ومشاهد ومعارك ومواجهات، بل راحت تبحث عن الحقّ في كل شيء مردّدة: “تعرفون الحق والحق يحرركم”. نظرت دائماً الى الأمام، الى المستقبل، ملتزمة خدمة الله من خلال لبنان والإنسان.
ثمة إشارة أخرى أتتها وبدّلت حياتها أشدّ تبديل. كانت، بعد عشرة أعوام من المعارك التي خاضتها وعشرات الإنتصارات وعشرات مشاهد الموت والحياة والإنكسارات والإنتصارات، تفكر في الحرب التي طالت فصولها وتقول: “وماذا بعد؟”. كبرت الصبية، وحين يكبر الإنسان ينضج. والنضج يجعل الإنسان لا يكره أحداً حتى ولو أخطأ في حقه لأن كل من يسيء تسيء له الدنيا. آمنت بذلك وراحت تبحث أكثر عن الأشياء الجميلة حتى في الخصوم والأعداء ومن صوبوا في اتجاهها البندقية وأردوا أمام عينيها رفاقاً بكت عليهم بدل الدمع دماء. هنا، فكرت في دخول الدير، لكن الشيخ بشير (الرئيس الشهيد بشير الجميل) دعاها في هذه اللحظة بالذات الى مقاومة من نوع آخر، الى تسلّم النظاميات في حزب “الكتائب اللبنانية”، طارحاً أسلوباً في التعاطي توافق مع النضج الذي بلغته، على أن تعمل من خلاله على تنشئة الصبايا ليلتزمنَ بالقيم. فكرت هنا. وجودها في الدير سيكون أكثر نفعاً أو وجودها في موقع تنشر فيه الوعي! ودفة الميزان مالت نحو الخيار الثاني وباتت جوسلين خويري مسؤولة النظاميات.
ومن مكان الى مكان الى مكان، راحت “الريسة” تتقدم نحو المقاومة التي تنشدها، في اتجاه تثبيت الإيمان ونشر التوعية والمساعدة والتشبث بالأرض. تفرغت المقاتلة للعمل الإجتماعي و”شلحت” عنها نهائياً البزة العسكرية، من دون أن “تتشاجر” مع الماضي أو تنبذه. ظلت جوسلين خويري تقول: لو عادت بنا عقارب الساعة الى الوراء لعدت الى متراسي.
الشيب غزا شعرها. والخبيث غزا جسدها. لم تلوّن شعرها وابتسمت للخبيث الذي، وإن قهر الجسد، فلن يقوى على ما زرعته. إستمرت تبتسم نفس الإبتسامة الهادئة، واستمرت تتكلم بنفس الصوت الخافت والكلام الأنيق. كتبت باللغة الفرنسية “الأرز والصليب، جوسلين خويري إمرأة المعارك” وضمنته إعترافات إمرأة مقاتلة. إمرأة أمسكت البندقية يوم دعا الواجب ووضعتها جانباً حين اكتشفت في نفسها جانباً مقاوماً آخر.
إنتقلت الى العمل الإجتماعي، ومعها الكثير من النظاميات، وأطلقنَ معاً “إمرأة 31 أيار”. لماذا 31 أيار؟ لأن أيار شهر العذراء وهنّ أردنَ “تكريس الرسالة الملقاة على عاتق المرأة وتثبيت دور العائلة في المجتمع وجعلها نواة لعائلة مقدسة وتثبيت المسيحيين على ارض لبنان والشرق”. هي مقاومة ونضال من نوع آخر أيقنت فيها جوسلين ورفيقاتها “أن الإنتصار في المعارك ليس هو النجاح التام بل يتحقق ذلك بكسر مقاومة العدو بدون قتال”. وأسّست “الريسة” أيضاً مركز يوحنا بولس 1995 ويحمل عنوان “نعم للحياة”. نعم للحياة قالتها دائماً أبداً، والحياة ليست مخملية دائماً.
أصيبت جوسلين خويري في الحرب، أصيبت في يديها، ورأت الموت مراراً لكنها أيقنت دائماً أن الإنسان لن يموت إلا مرة واحدة. وفي هذه المرة يجب أن يكون مستعداً لملاقاة وجه الرب.
كل الناس، كل من عرفوها شخصياً، ومن عرفوها بالإسم والأفعال فقط، توقفوا عند خبر: جوسلين خويري بحاجة ماسة الى دم. خبرٌ آخر حزين. كثيرون صلّوا من أجلها طالبين من الله تخفيف آلامها مع الإيمان الكلي بمشيئته وحكمته في تدبير الأمور.
جوسلين خويري، لا يخيفها الموت بل يخيفنا نحن، هي واجهته، تصارعه، وحين سترضخ له ستكون أجمل لحظاتها. فلتكن مشيئته.