بعد استنفاد دبلوماسية الكواليس وتعزيزاً لعمل الدبلوماسي هادي عمرو، أوفدت واشنطن وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إلى المنطقة لتطويق تداعيات الحرب في غزة، في خطوة ولو متأخرة تشير إلى إدراكها لمخاطر تمدد النزاع إلى جبهات أخرى يضطرها للتدخل، وهذا ما تسعى جاهدة لتلافيه. فرغم أن الإدارات الديمقراطية، من إدارة باراك أوباما إلى إدارة جو بايدن، بدت راغبة في الابتعاد عن الشرق الأوسط وحروبه المستعصية، جاء في إحدى مقالات «نيويورك تايمز» الأسبوع الفائت أن المنطقة تشد الولايات المتحدة مرغمة للانخراط مجدداً في مستنقعها.
وتحمل زيارة الوزير الأميركي وعوداً عدة على رأسها العودة إلى ثوابت سياسة واشنطن تجاه النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني التي ابتعد عنها دونالد ترمب، أي حل الدولتين (وهذا تعهد انتخابي مقطوع مسبقاً)، وإعادة فتح قنصلية في القدس الشرقية وإرسال مساعدات إنسانية إلى غزة، والأمر الأخير يثير القلق في الحراك الأميركي المتجدد لأنه من المتعارف عليه أن المساعدات الإنسانية هي غير إعادة الإعمار الذي يتطلب رؤية سياسية واضحة لتسوية مشكلة غزة واستتباعاً النزاع الفلسطيني برمته.
فالخوف يكمن في أن يكون أقصى ما سوف تقدم عليه واشنطن في هذه المرحلة هو محاولة إدارة النزاع وليس حله، في استمرار لما درجت عليه مشاريع تدخلها السابقة وأبرزها ما حصل مع غزة نفسها بعد جولة عنف عام 2014 حين رصد مؤتمر الدول المانحة نحو 5 مليارات دولار لم تصل إلى غزة بسبب الاستعصاء السياسي. وجوهر المشكلة يومها كان بقاء «حماس» مسيطرة على القطاع، فرفضت السلطة الفلسطينية تحمل المسؤولية ما دام زمام الأمور في يد الحركة. والوضع اليوم ليس أفضل حالاً مع النشوة التي تعتري «حماس» وحلفاءها في القطاع وفلسطين جراء مجريات جولة العنف الأخيرة، نشوة طالت الحلفاء في جبهة الممانعة بطول المنطقة وعرضها، وخير من أعرب عنها هو حسن نصر الله في خطاب ذكرى التحرير في لبنان سنة 2000 الأسبوع الفائت حين اعتبر أن نهاية إسرائيل وسقوط كيانها باتا «قضية وقت لا أكثر».
من السذاجة اليوم التصديق أن التسوية النهائية للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني متاحة، خصوصاً أنه راهناً بين فريقين دينيين متطرفين وعنيفين: اليمين المتشدد في إسرائيل الذي يبدو أنه صاحب اليد الطولى وأنه متفوق على الليبراليين العلمانيين وعلى فريق ثالث وسطي ضعيف أيضاً، يرضى بالأمر الواقع ويرغب في تجنب الحروب والعنف. وفي المقلب الآخر، إسلام سياسي آيديولوجي متشدد لا ينحصر همه في القدس أو فلسطين فحسب بل يتعداه إلى نشر آيديولوجيا متطرفة على مستوى الإقليم.
وهنا يبرز الدور الأميركي لأنه وحده قادر على تغيير هذه المعادلة، لا سيما إذا كان لتدخله أفق سياسي يستند إلى وعي كافٍ لحقائق ثلاث.
الحقيقة الأولى هي أن حرب غزة الأخيرة ليست رد فعل عفوياً على ممارسات إسرائيل الهمجية والعنصرية في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية وسواها فحسب، بل هي نتيجة ورد صريح لا يحمل الالتباس على تراكمات وتغييرات مرتبطة بالمنطقة وأحوالها وتجاذباتها الحادة لا يجوز إغفالها أو تحييدها. أبرز هذه التطورات تراجع «الإخوان المسلمين» بعد سقوط رئاسة محمد مرسي في مصر وتقدم محور الاعتدال السني في المنطقة من مصر والسعودية والأردن والمغرب والإمارات وغيرها، وعودة انطلاق مسيرة التطبيع مع إسرائيل والتحاق أربع دول عربية ذات ثقل ووزن بها. وإلى كل ذلك نضيف ما تعرضت وتتعرض له إيران منذ أكثر من سنتين سواء من الاغتيالات التي طالت رموزاً أساسية عسكرية وعلمية، مروراً بالعقوبات القصوى التي فرضتها إدارة ترمب، وصولاً إلى الضربات التي تتعرض لها في سوريا مع حلفائها. وكما في كل شأن سياسي، تخلق عوامل جديدة تحفزه وكانت في الحدث الأخير أخطاء إسرائيل في حي الشيخ جراح في القدس واقتناص «حماس» لها والبناء عليها.
الحقيقة الثانية هي خطأ الاندفاع والهرولة لإنجاح المفاوضات في فيينا للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران ووضع معايير منخفضة جداً لرفع بعض العقوبات عنها. فالمفاوض الأميركي يرغب في إنجاز الاتفاق قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة لاعتقاده أن ذلك يعطي دافعاً للإصلاحيين رغم أن المنافسة على منصب الرئاسة حسمت على الأرجح لصالح المحافظ إبراهيم رئيسي بعد استبعاد المرشح الأقل تشدداً علي لاريجاني والإصلاحي إسحاق جهانغيري.
أما الحقيقة الثالثة فهي الخلل في خلفية تفكير المفاوض الأميركي الذي يصدق إما عن حق وقناعة وإما مسايرة للأمر الواقع وميزان القوى، أن النجاح مع إيران سيدفعها إلى لجم «حماس» في غزة والحوثيين في اليمن و«حزب الله» في سوريا ولبنان. وهذا التفكير يحاكي الموقف الفرنسي من حلفاء إيران وأبرزهم «حزب الله»، إذ إن باريس مقتنعة بضرورة احتوائه والعمل معه لتشكيل حكومة في لبنان وإخراج البلاد من أزمتها الخانقة. هذا النمط من التفكير لدى أميركا والغرب عامة، يؤكد أنهم يكررون تجاربهم المريرة مع نظام آل الأسد في سوريا التي امتدت على مدى عقود طويلة حين كان يشعل النار ليبيعهم إطفاءها، وهذا ما تقوم به إيران في غزة وفي دول الإقليم وفقاً لمصالحها.
إن وعي إدارة بايدن بهذه الحقائق قد يعجل بدبلوماسية الضرورة الملحة بالضغط على بنيامين نتنياهو وحلفائه لوقف الممارسات الأحادية والسير باتجاه حل الدولتين، ودعم السلطة الوطنية الفلسطينية رغم الوهن الذي أصابها وإطلاق مبادرات سياسية واقتصادية عاجلة للضفة الغربية تبدأ بعودة سريعة للقنصلية الأميركية إلى القدس الشرقية وتعيين سفير لدى إسرائيل يستطيع لعب دور الوسيط النزيه، وضبط المساعدات الإنسانية إلى غزة لتصل إلى محتاجيها والدفع بمشروع دولي مدعوم أميركياً لإعادة الإعمار مشروطاً بتهدئة مستدامة وإجراءات أمنية وعسكرية تحول دون تجدد الحرب وفق أهواء حركة «حماس» وداعميها في الداخل والخارج.
من دون إعادة الحياة إلى حل الدولتين عبثاً كل محاولات التسوية، والفرصة مواتية اليوم لأن المجتمع الإسرائيلي بات مهيَّأً لها أكثر من السابق بعد دروس حرب غزة الأخيرة وما استتبعها من اضطرابات في المدن المختلطة، إضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي في الداخل التي بدأت تحاكي حال بعض دول الجوار في عدم التمكن من تشكيل حكومة والاقتراب من انتخابات عامة خامسة في أقل من سنتين.
رغم رمال الشرق الأوسط المتحركة، تطوف على السطح اليوم ملامح فرص تاريخية تجسدها سلسلة إيجابية من الأحداث على واشنطن اقتناصها، والتدخل الأميركي الصحيح القائم على استراتيجية واضحة لما يريد تحقيقه تتجاوز مجرد إعادة التأكيد على السياسات الأميركية قبل ترمب، يصب في مصلحة ثلاثة أطراف؛ الولايات المتحدة نفسها جراء المتغيرات البادية داخل الحزب الديمقراطي وموقفه النقدي المستجد من إسرائيل وما له من تداعيات على الحزب وإدارة بايدن، وإسرائيل لأنه قد يساعدها على إنقاذها من نفسها، وفلسطين كونها محتاجة بإلحاح لمن ينتشلها من خاطفيها والمتاجرين بها ومن هزال قرارها الوطني. هل يفعلها بايدن؟