هناك لحظة ثمينة تقاطعت فيها المصالح لإبرام اتفاق ترسيم للحدود البحرية جنوباً. وإذا أدركها أركان السلطة وتجنّبوا إضاعة الوقت والمكاسب، فسيكون لبنان أمام فرصة يصعب تكرارها قريباً لحلحلة أزماته كلها، بما فيها الدستورية والسياسية والمالية.
يمكن للذكرى الثالثة لـ17 تشرين الأول 2019 أن تكون خاتمة الانهيار الذي انفجر في ذلك اليوم على مداه وانكشف، بعدما كان مستوراً على مدى سنوات.
وتتحقق هذه الخاتمة إذا عرف أركان السلطة كيف يستثمرون حاجة القوى الإقليمية والدولية إلى لبنان ودوره الاقتصادي والسياسي، في هذه اللحظة تحديداً، أي لحظة الاصطدام الكبرى بين الشرق والغرب، ونشوء الامبراطوريات الإقليمية والدولية الجديدة، وإعادة بناء الكيانات الشرق أوسطية التي ضربتها الزلازل بدءاً من حرب العراق 2002 إلى أحداث الربيع العربي وحرب سوريا.
فالظروف التي تحرّك الاتجاهات اليوم في الشرق الأوسط ولبنان، تناقض تلك التي أدت إلى انهيار 2019. وأبرز المتغيرات انقلاب الولايات المتحدة من نهج دونالد ترامب إلى نهج جو بايدن. فإذا كان الانهيار قد انكشف بسبب نهج ترامب الصدامي، فمن الممكن أن يستفيد اللبنانيون من نهج بايدن الأكثر ميلاً إلى التسويات لإصلاح الوضع.
كان ترامب يرتاح إلى فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان، ويتصادم مع طهران، وكانت علاقاته متوترة مع الأوروبيين، ولا سيما فرنسا وألمانيا. فجاء بايدن بعلاقات متوترة مع بوتين وإردوغان، وبرغبة في التسوية مع الإيرانيين، وقام بترميم الروابط مع أوروبا.
وفيما الرجلان يضعان حتماً مصلحة إسرائيل في طليعة الأهداف في الشرق الأوسط، فإن ترامب كان حليفاً لبنيامين نتنياهو فيما يفضّل بايدن التعاطي مع القوى الوسطية هناك.
استنتاجاً، نهج بايدن في الشرق الأوسط يفترض أن يقود إلى تسويات مع إيران (حلّ مأزق الاتفاق النووي) وتسويات في الدول التي تتمتع فيها إيران بالنفوذ (العراق، سوريا، اليمن، لبنان، إضافة إلى غزة) وتسويات غير مباشرة بين إسرائيل والقوى الحليفة لإيران في المنطقة.
وعلى هذا الأساس، يمكن النظر إلى اتفاق الترسيم وتقاسم الغاز بين إسرائيل ولبنان، والذي يحظى بتغطية واضحة من «حزب الله». فهذه التغطية ما كانت لتحصل لولا موافقة إيران. وهذا يعني أن لبنان هو اليوم محط تسوية بين إيران والولايات المتحدة بعدما كان ساحة الحرب.
لكن لهذه التسوية حدودها وشروطها. ويمكن لأي طرف أن يعود عنها في أي لحظة إذا اقتضَت مصالحه ذلك، فتتعطل التسوية ويعود مناخ التصادم. وهنا تبدو أهمية التقاط اللبنانيين للحظة السانحة وتحويلها إلى حلّ شامل ودائم لأزماتهم.
فاتفاق الترسيم يتزامَن مع استحقاقات دستورية وسياسية ومالية واقتصادية مطلوب إنجازها في مدى أيام قليلة أو أسابيع، وفي حد أقصى حتى نهاية العام الجاري:
1 – انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة جديدة ما يعيد الانتظام إلى عمل المؤسسات الدستورية.
2 – بعد الترسيم مع إسرائيل، فتح مفاوضات للترسيم مع قبرص وسوريا، وبدء ورشة تنقيب وتلزيم واستخراج شاملة، وفي أسرع ما يمكن، لقطف الثمار الاقتصادية في الظرف المناسب.
3 – إيجاد مخارج سريعة لأزمات الطاقة من خلال الاتفاقات مع مصر والأردن والعراق والجزائر وسواها.
4 – إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وفق أسس إصلاح جدية، والبدء في عملية النهوض المالي والاقتصادي.
5 – الإفادة من أجواء التسوية والاستقرار بتحريك المساعدات المقررة في مؤتمر «سيدر» والمقدرة بـ 11.5 مليار دولار.
6 – إقرار خطة لإنهاء أزمة النازحين.
وعلى الأرجح، الظرف مناسب لوضع الأسس الأولى نحو العديد من هذه الأهداف، في الأيام القليلة الباقية من عهد الرئيس ميشال عون، أي قبل الدخول في مأزق سياسي محتمل في لبنان، ودخول الإسرائيليين في انتخابات تشريعية قد تفتح الباب لاحتمالات لا يمكن تقديرها.
ولكن، باستثناء توقيع الاتفاق مع إسرائيل، لا يُبدي أركان السلطة أي حماس للاستفادة من الفرصة التي يوفّرها الدعم الأميركي المستجد للتسويات في لبنان. وهذا ما يثير الخشية من تطيير المكاسب التي وفّرتها عملية «مد اليد» الأميركية إلى لبنان بعد فترة من الحصار والعقوبات القاسية.
حتى إدارة الرئيس جو بايدن ستنشغل داخلياً بالانتخابات النصفية المنتظر إجراؤها بعد أيام من انتخابات إسرائيل، علماً أنّ انشغالها الخارجي الأول يبقى الحرب مع روسيا في أوكرانيا.
وفي الشرق الأوسط، تسعى إدارة بايدن إلى رعاية تسويات تُريح طهران، لعلها تنجح في الحد من نفوذ روسيا في الشرق الأوسط وقطع الطريق على الصين الطامحة إلى الدخول بقوة سياسياً واقتصادياً.
لذلك، ظهرت ملامح تسوية في العراق، بانتخاب رئيس للجمهورية. وتراجع الحديث عن الحل الروسي – التركي في شمال سوريا، وفي مناخ تهدئة فلسطينية – فلسطينية بدأ الكلام على اتفاقات مع إسرائيل في غزة شبيهة باتفاق الترسيم في لبنان.
هذه الدينامية الأميركية، التي يبدو الإيرانيون إيجابيين حيالها، تشكّل فرصة نادرة للبنان. لكنها موقوتة بأيام أو أسابيع لا أكثر، لأنّ التقاطع الدولي – الإقليمي الذي ساهمت فيه العديد من الظروف والمصادفات سرعان ما سينتهي.
وهنا تحديداً يكمن دور أركان السلطة. فهم قادرون اليوم على إعلان حال الاستنفار وملاقاة الجهد الأميركي وإنقاذ لبنان من الانهيار، أو انهم سيكونون مسؤولين بالجهل والتجاهل والأنانية والعجز عن تفويت الفرصة ودفعه إلى طبقات أخرى في جهنم.
طبعاً، يستحيل الرهان على وعي قوى السلطة أو نظافتها. فقد تمّت تجربتهما طويلاً، وانتهت التجارب بالفشل دائماً. والرهان الوحيد الذي قد يكون مجدياً هو أن تتولى القوى الدولية والإقليمية فرض الحلول على لبنان وزعمائه بالقوة. ولكن، هل لهذه القوى مصلحة في الاستنفار والقتال من أجل إنقاذ لبنان؟ وما هي الحوافز التي قد تدفعها إلى تحقيق هذا الهدف؟