ليس سراً أنّ العلاقة لم تكن يوماً على ما يرام بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو. وقد كانت لحظة سيئة للرئيس الأميركي عندما خسر اليسار الإسرائيلي معركته في وجه نتنياهو واليمين المتطرّف، في تشرين الثاني 2022. ويذهب البعض إلى القول إنّ بايدن بدا دائماً أكثر تفاؤلاً في تحسين العلاقات مع قادة طهران من تحسينها مع نتنياهو. ولكن، جاءت ضربة 7 تشرين الأول لتخلط الأوراق مجدداً.
منذ أن نفّذت «حماس» عمليتها في غزة، يتعّرض الرئيس الأميركي لحملة عنيفة يشنّها أركان الحزب الجمهوري، وفي مقدّمهم دونالد ترامب. كما أنّ استطلاعات الرأي أظهرت في الفترة الأخيرة تراجع تأييد الأميركيين لسياسات بايدن.
وهذه العلامات يقرأها الرئيس الأميركي باهتمام على أبواب العام الأخير من ولايته الرئاسية، فيما ينشط كل مرشح محتمل، من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، لتجميل صورته استعداداً للمعركة. ويستغل ترامب ورفاقه الجمهوريون اتفاق تبادل المحتجزين الذي أبرمته إدارة بايدن أخيراً مع طهران، لتحميله المسؤولية عن هجوم «حماس». ويقولون: ما حذّرنا منه مراراً تبيّن أنّه صحيح. فإيران عندما تحصل على الأموال تستخدمها في تمويل أجنحتها العاملة في الشرق الأوسط والعالم. وأخيراً، عندما تمّ الإفراج عن أرصدة لها بقيمة 6 مليارات دولار، ضمن صفقة التبادل، عمدت إلى تمويل هجوم «حماس» في غزة. وهكذا، فإنّ بايدن، وفق هؤلاء، فرّط بأمن إسرائيل إرضاءً لإيران.
طبعاً، على أبواب انتخابات يريد فيها استقطاب الصوت اليهودي، اضطر بايدن إلى إطلاق أقوى المواقف دعماً لإسرائيل، وأرسل إلى المتوسط حاملة الطائرات الأكثر تطوراً في العالم، وأشرك أركان قواته في غرفة عمليات الجيش الإسرائيلي.
وتدافع الإدارة الديموقراطية نفسها بالقول، إنّ إيران لا تستطيع تحريك المليارات الستة إلاّ برقابة النظام المصرفي العالمي، ولذلك، هي لا تُنفقها إلاّ في مجال الخدمات الإنسانية.
ويريد بايدن والديموقراطيون اعتماد نهج يقنع الناخبين اليهود من جهة، ويُظهر للناخبين الأميركيين عموماً أنّ إدارتهم ملتزمة أمن حلفائها في العالم، وبينهم إسرائيل في الشرق الأوسط كما أوكرانيا في أوروبا.
وأيضاً، يريد بايدن إقناع الرأي العام الأميركي بأنّ واشنطن حافظت خلال عهده على تفوّقها دولياً، وبأنّها ما زالت ممسكة بزمام المبادرة في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، وأنّها تقطع الطريق على روسيا والصين، في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا.
ترجمة هذا الموقف هي أنّ إدارة بايدن ستدعم إسرائيل إلى الحدّ الأقصى وتساعدها على إبعاد خطر «حماس»، لكنها لن تدخل في مغامرة مفتوحة تكون كلفتها الآلاف من المدنيين الفلسطينيين. فهذا أيضاً خط أحمر، لأنّ ثمنه باهظ ولا يستطيع أحد تحمّله، وهو بالتأكيد سيُشعل غضباً عارماً في الرأي العام العربي والإسلامي، ويثير مناخات من التوتر والعداء للولايات المتحدة والغرب يصعب ضبطها. وملامح عودة المناخ الإرهابي إلى أوروبا الغربية واضحة.
إذاً، إنّه خيط رفيع تحرص عليه إدارة بايدن في غزة. وهذا الخيط حاول تظهيره وزيرا خارجيتها ودفاعها أنتوني بلينكن ولويد أوستن خلال محادثاتهما الأخيرة، خصوصاً على الخط الإسرائيلي- المصري. ففي مفاوضاته مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تبنّى بلينكن طرح إسرائيل القاضي بفتح بوابة رفح لكي يتدفق عبرها سكان غزة، ويبدأ تطبيق الخطة القاضية بضمّ جزء من محافظة شمال سيناء إلى القطاع، فيشكّلان كياناً واحداً تسعى إسرائيل إلى اعتباره «الدولة الفلسطينية» الموعودة. لكن الرئيس المصري رفض هذا الطرح بنحو حازم لأسباب كثيرة.
وثمة من يعتقد أنّ مصر ستتعرّض لضغوط وإغراءات كثيرة لتوافق على هذا الطرح، وسيستغل الأميركيون والإسرائيليون أزماتها المختلفة لتحقيق هذه الغاية، كما سيستغلون أزمات لبنان وسوريا والأردن والعراق لتحقيق غايات أخرى تصبّ في الهدف عينه.
في الانتظار، تتمّ إطالة مهلة التفاوض قبل إطلاق العمل العسكري في غزة، بهدف تحقيق أوسع نزوح للسكان من القطاع، ومن شماله تحديداً، ثم إقناع مصر بفتح البوابة أمامهم.
فالواضح إنّ إسرائيل تريد تحقيق هدفها بإحداث التغيير الديموغرافي من دون قتال، هرباً من حمام دم، ثم خوض المواجهة النارية مع «حماس»، ما يكفل تعطيل أنشطتها في المستقبل. وخلال هذه العملية، ستمارس واشنطن ما أمكنها من ضغوط لمنع انفجار جبهة جديدة على الحدود اللبنانية. كما سيتاح مجال للتفاوض على مبادلة الأسرى الإسرائيليين بآلاف المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
في الأساس، بايدن آتٍ إلى إسرائيل تلبيةً لأمنية نتنياهو، كتظاهرة تعبّر عن الدعم الأميركي المطلق لها. ولكن أيضاً، خلال الزيارة، سيحاول بايدن طرح عدد من المخارج على حكّام مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. وعلى الأرجح، ستكون طهران شريكاً غير معلن في المفاوضات، من خلال «حماس»، بعدما بات جزء أساسي من الملف الفلسطيني في عهدتها.
ستكون المفاوضات شاقّة، لأنّ من الصعب على بايدن أن يرضي الجميع، فيما كل طرف يمتلك أوراق القوة الخاصة به ويمكنه استخدامها، قبل المفاوضات وخلالها وبعدها، ولا سيما إسرائيل وإيران. الأولى لا تتوانى عن التهديد بتحويل غزة جحيماً، فيما الثانية تتوعّد، على لسان وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان، بتسديد «ضربة استباقية» يتسع المجال لتحليل حيثياتها: أين، كيف، ومن سيقوم بتنفيذها؟
لذلك، يفاوض بايدن على فوهة المدفع. ومأزقه أنّه محكوم بتحقيق توافق سياسي إجباري «على الحامي»، وإلاّ فإنّه سيعود إلى واشنطن رافعاً رايات الفشل. وهناك، ستكون سيوف خصومه في المرصاد.