Site icon IMLebanon

تلويح خجول من بعيد

 

ما ان تسلّمت ادارة جو بايدن مهماتها الرسمية حتى بدأت رسم الخطوط العريضة لسياستها الخارجية، وكذلك باشرت، إن من خلال رئيسها او وزير خارجيتها ومستشار الامن القومي، إجراء اتصالاتها مع مسؤولين دوليين، ولكن وفق اولوية الملفات التي وضعتها، وتعكس الى حدٍّ كبير تراتبية اولوياتها.

أولى هذه الاتصالات شملت المسؤولين الكبار في كل من كندا والمكسيك، وهذا يعني انّ الادارة الديموقراطية تضع في اولى اولوياتها، إعادة رسم سياسة اقليمية جديدة، لها تأثيرها المباشر على الداخل الاميركي. وتلا ذلك، جملة اتصالات طاولت القارة الاوروبية وحلف شمال الاطلسي، فكانت محادثات مع بريطانيا وفرنسا والمانيا، بالإضافة الى قادة في الاتحاد الاوروبي. وهو ما يعني اولوية تمسّك واشنطن بإعادة تصحيح العلاقة مع العواصم الاوروبية، بعد ان سيطر عليها الجليد طوال السنوات الاربع الماضية، خلال وجود دونالد ترامب في البيت الابيض. وهذا التصحيح يشمل صوغ تعاون جديد ودور اوروبي على صعيد الملفات الدولية، وكذلك اعادة الحيوية الى التعاون العسكري في حلف شمال الاطلسي. وشملت هذه الاتصالات ايضاً حلفاء الولايات المتحدة الاميركية في المحيط الهادئ مثل استراليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية، فيما حرص بايدن ووزير خارجيته انطوني بلينكن، على التحدث مع نظيريهما في الصين وروسيا. وهو ما يعني انّ الاولوية المطلقة لإدارة بايدن في السياسة الخارجية هي في السعي للتعامل مع التحدّيات الهائلة التي باتت تمثلها الصين على المسرح العالمي، اضافة الى الموقع الجديد الذي بدأت تحتله روسيا، مع تأكيد اولوية السعي لاحتواء النفوذ الصيني المتصاعد. ففي تشرين الثاني الماضي، وتحديداً بعد انتخاب بايدن رئيساً للولايات المتحدة الاميركية، وقّعت الصين اتفاق الشراكة الاقتصادية الاقليمية الشاملة مع 14 دولة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهي اكبر اتفاقية للتجارة الحرّة على الاطلاق. ولم يتردّد قادة الدول التي تُعتبر من الحلفاء التاريخيين لواشنطن، من الانضمام الى هذه الاتفاقية، مثل استراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.

 

الواضح انّ الرئيس الاميركي ومعه مراكز صناعة القرار الاميركي، والذين تملّكهم الخوف جراء الفراغات الناتجة من سياسة ترامب الخارجية، يسعون الى استعادة الحضور الاميركي على المسرح العالمي، واقناع حلفائهم في اوروبا وآسيا للانضمام الى مشروع احتواء التمدّد الصيني على الرقعة العالمية، وتحت ستار القوة الاقتصادية الهائلة التي باتت تحظى بها، من خلال تعاون جدّي، وعلى اساس تعديل في النهج الاميركي.

 

وفي اول خطاب رئيسي له عن السياسة الخارجية، وامام مؤتمر ميونيخ للأمن، قال بايدن في وضوح، إنّ على الولايات المتحدة الاميركية واوروبا الاستعداد معاً لمنافسة استراتيجية طويلة الأمد مع الصين. وهذا التنافس مع الصين سيحدّد النظام العالمي للعقود المقبلة. لذلك، يتجّه الرئيس الاميركي الى تعيين أحد أبرز وأهم الديبلوماسيين، وهو نيكولاس بيرنز، سفيراً لبلاده في بكين.

 

لكن قبل ان تعمد ادارة بايدن الى تدشين حقبة العمل على احتواء التمدّد الصيني، او ربما الحرب الباردة الجديدة، ولو بعنوان اقتصادي هذه المرة، فهي باشرت خطواتها لترتيب سريع لأحد ابرز ملفاتها المفتوحة، والمقصود هنا بالطبع ملف ايران النووي، وإعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الاوسط، بما يتلاءم مع رؤيتها لمواجهة الصين. والأهم، انّ اغلاق دفاتر الشرق الاوسط محكوم بوقت لن يطول كثيراً قبل التفرّغ للصين. من هنا يمكن تفسير انّ المكالمة الرقم 12 لبايدن كانت مع رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، والتي كانت اول مكالمة مع مسؤول كبير في الشرق الاوسط.

 

صحيح انّ المودة مفقودة بين الادارة الديموقراطية ونتنياهو منذ ايام ادارة باراك اوباما، الّا انّ التأخّر في اجراء مكالمة هاتفية بين رئيس اميركي جديد ورئيس الحكومة الاسرائيلية لا يعود فقط الى هذا المعطى، بل خصوصاً الى انّ الشرق الاوسط مرشح لأن يتراجع خطوات على لائحة الاهتمامات الاميركية. وكان لافتاً ايضاً، انّ وزير الخارجية الاميركية هاتف مسؤولين في المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة، لكنه أحجم عن الاتصال حتى الآن بمسؤول مصري. وشملت الاتصالات ايضاً العراق والاردن وتركيا. واختار بايدن الإعلان عن استعداد بلاده لإجراء محادثات مع طهران حول العودة الى الاتفاق النووي انسجاماً مع الدعوة الاوروبية، بعد يوم واحد على مكالمته مع نتنياهو، المعترض والمتحسس من العودة الى الإتفاق مع ايران. والأهم، انّه لم يتطرق مع رئيس الحكومة الاسرائيلية خلال الاتصال الى الملف الايراني. لكن قرار العودة الى المفاوضات بشراكة اوروبية، والذي تريد ادارة بايدن إنجازه سريعاً، رافقته عمليات أمنية في العراق، كان ابرزها على الإطلاق استهداف مطار اربيل، حيث تتخذ القوات الاميركية موقعاً لها.

 

البعض يميل الى تفسير رسائل الهجمات الصاروخية على مطار أبها جنوب غرب السعودية ومطار اربيل، على أنّها اعتراض ايراني على دمج ملف الصواريخ البالستية مع الملف النووي الذي وضِع على طاولة التفاوض. وهو يعتقد انّ ايران، ومن خلال رسائلها الصاروخية، تمتحن جدّية واشنطن. ذلك انّ ادارة بايدن التي تراهن على إعادة إحياء تعاونها مع الاكراد، بدأت تسمع اصوات اعتراض الجمهوريين في الكونغرس، حول قلقهم من تقديم تنازلات فعلية لإيران.

وقال السفير دينيس روس، الخبير في شؤون الشرق الاوسط والقريب من الحزب الديموقراطي، انّ التحدّي الذي يواجه بايدن سيكون في اثباته أنّه لا يتنازل عن اي شيء لإيران سلفاً، بينما يحاول العمل على تغيير سلوك طهران في المنطقة.

 

وفي خطوة تعويض لاسرائيل، التي تثير على الدوام قلقها من المخاطر الأمنية الآتية من إيران، باشرت واشنطن وبالشراكة مع اسرائيل، تطوير الجيل الجديد من انظمة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية التي تمتلكها ايران، والتي سيُطلق عليها اسم «حيتس 4».

 

وفي ردّ اولي على هجوم اربيل، عمد حلف «الناتو» الى توسيع مهماته وعديده في العراق، ليصبح نحو 4 آلاف جندي بعد ان كان نحو 500 فقط. ذلك انّ ايران كانت تنتظر بفارغ الصبر الانسحاب العسكري الاميركي الكامل من العراق، ما سيعطيها حرية حركة اوسع. لكن الجديد هو تلك البرودة في العلاقة الاميركية مع السعودية. ذلك انّ بايدن اعلن على لسان الناطقة بإسم البيت الابيض، انّ تواصله مع السعودية سيكون على مستوى الملك فقط. فيما كانت العلاقة ايام ترامب قائمة وبحرارة مع ولي العهد الامير محمد بن سلمان، وهو ما يعني تمسّك واشنطن بالعلاقة الاستراتيجية مع السعودية، ولكن من دون امتيازات خاصة. وهذا ما يدعو الى خفض السقوف والانتظام في المسار الاميركي السريع المطلوب للشرق الاوسط. والتمسك بالعلاقة الاستراتيجية يعني إقفال ملف الحرب في اليمن، وربما إشراك السعودية في المفاوضات مع ايران حول الملف النووي، وهو ما يزعج طهران بلا شك.

 

ومن المفترض ان يبحث الرئيس الفرنسي خلال زيارته المتوقعة للسعودية كل هذه الملفات زائداً ملف لبنان. والواضح انّ كل هذه الورشة الضخمة للأميركيين لا مكان فيها للملف اللبناني المتروك للفرنسيين في هذه المرحلة، مع وجود احتمال كبير بإشراك روسيا في بعض جوانبه.

 

في الواقع باشرت السعودية إبداء شيء من المرونة على الصعيد اللبناني، انسجاماً مع الصورة الشاملة. فالسفير السعودي عاد الى بيروت بعد طول قطيعة، والرئيس سعد الحريري اقترب من زيارة السعودية، خصوصاً وانّ لقاءه بولي عهد ابو ظبي محمد بن زايد ما كان ليحصل لولا إزالة «الفيتو» الذي كان يضعه ولي العهد السعودي. وفي المقابل كانت المرونة واضحة في الخطاب الاخير للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله.

 

حتى خطاب رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل تضمن في بعض ثناياه دعوة الحريري الى التفاوض، مع ابداء بعض المرونة لجهة الثلث المعطل، ووجد المخرج من خلال ترك التسمية لتيار «المردة».

 

هو تلويح عدد من الاطراف بالإيجابية ولو من بعيد، لكن الحكمة تقضي بالاستعجال اكثر، لأنّ إدارة بايدن تريد اقفال ملف المنطقة بسرعة، والأهم، لأنّ واقعنا الاقتصادي والمالي اكثر من خطير.