IMLebanon

بايدن ـ بوتين… الملاكمة بالتصريحات

 

من سوء حظ الرئيس الأميركي جو بايدن، أن يتعثر وهو يصعد إلى طائرته الرئاسية ثلاث مرات متتالية، فيما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يتمنى له الصحة الجيدة في سياق سجال محتدم بينهما.

الترميز في تصريح بوتين، حول اعتلال صحة نظيره الأميركي، نقلته السقطة الثلاثية إلى عالم الواقع، لا سيما أن بايدن كان يهم بالصعود إلى الطائرة بخطوات متثاقلة.

قبل سنة، اشتعل الإعلام الأميركي الليبرالي بكل أنواع التحليلات والتنظيرات حينما نشر صحافي يساري فيديو للرئيس السابق دونالد ترمب وهو يمشي نزولاً من المنصة بخطى حذرة، في ختام احتفالية في جامعة ويست بوينت، ممسكاً بالمسند المعدني لسلم الطائرة كأنه يخشى السقوط، أو يكابر على همة ثقيلة. تحول الفيديو، حينها، إلى مادة للسؤال عن صحة الرئيس ولياقته البدنية وملائمة قدراته للرئاسة وضغوطها. بالطبع لم يحصل الأمر نفسه مع بايدن، بل جاءت الإضاءة من موسكو عقب لحظة تلفزيونية غنية بالترميز والدلالات، ما لبث أن انقض على الاستثمار فيها أيضاً معلقون من صف ترمب.

تمنيات بوتين لبايدن بوافر الصحة، جاءت بعد أن أجاب الرئيس الأميركي بالإيجاب عن سؤال في مقابلة تلفزيونية، إذا ما كان يعتقد أن الرئيس الروسي قاتل. ثم ما لبثت موسكو أن استدعت سفيرها في واشطن في سابقة لم تحصل منذ عقود، بالتوازي مع «ردود» وليس رداً واحداً من سيد الكرملين، توزعت على رد الإهانة بمثلها ودعوة بايدن لمناظرة تلفزيونية مباشرة، في تشكيك آخر بقدرات بايدن الذهنية.

من غير الواضح حتى الآن ماذا أراد بايدن من إعلان قناعته بأن بوتين قاتل، وما إذا كان سيذهب إلى هذا السقف لو لم يسأله عنه الصحافي جورج ستيفانوبولوس، في تلفزيون «إيه بي سي» الأميركي.

ومن غير الواضح إن كانت واشنطن تريد الذهاب بالاشتباك مع موسكو إلى مكان أبعد من السجال الإعلامي العلني، لا سيما أن بايدن ومع تمسكه بما قاله، ترك الباب مفتوحاً للحديث مع نظيره الروسي «في وقت ما»، في حين أكد البيت الأبيض على التعاون بين البلدين في قضايا استراتيجية كثيرة.

لعل أحد الأسباب الرئيسية خلف التصريح الأميركي أنه يأتي بعد إعلان أجهزة الاستخبارات الأميركية أن روسيا إلى جانب إيران وآخرين، حاولوا التأثير في الانتخابات الأميركية. ويفصح عن رغبة لدى بايدن بأن يقدم للرأي العام الأميركي سلوكاً مختلفاً عن سلفه ترمب تجاه بوتين. مرة جديدة نحن أمام مشهد من مشاهد المعركة المستمرة مع إرث ترمب في الحياة السياسية الأميركية، واستخدام إدارة بايدن لملفات السياسة الخارجية لتصفية حسابات في السياسة الداخلية.

ببساطة هي فرصة لبايدن ليقول للأميركيين إنه يتعامل مع «أعداء» الولايات المتحدة بطريقة مناقضة تماماً لترمب، الذي بالغ في علاقة الغزل والصداقة بشخصيات إشكالية كبوتين وكيم يونغ أون وغيرهما. إنها مسألة داخلية قبل أن تكون أي شيء آخر.

فمنصة الاشتباك الروسي الأميركي توفر لبايدن فرصة إعادة الاعتبار للتفوق القيمي الأميركي، وإعادة تكوين صورة أميركا على هذه الأسس. كان لافتاً مثلاً أن أولى عقوبات إدارة بايدن ضد روسيا في أوائل مارس (آذار) جاءت بعد رفع السرية عن تقرير استخباراتي أميركي خلص إلى أن المخابرات الروسية تقف وراء تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني في سيبيريا في أغسطس (آب) 2020.

وقد يقول قائل إن روسيا ليست الصين. ولا تشكل تحدياً اقتصادياً لأميركا. فاقتصاد الاتحاد الروسي لا يتجاوز اقتصاد ولاية تكساس الأميركية وحدها! مع ذلك فإن العلاقة بين الناتج القومي والدور الاستراتيجي ليست دائماً علاقة مباشرة، وحضور روسيا في أزمات العالم ليس حضوراً بسيطاً، لا سيما في الملفات الزمنية والحرب السيبرانية، وبطبيعة الحال مسألة الأسلحة النووية، وهي ملفات ستحتم على الطرفين عدم الذهاب بعيداً في الاشتباك السياسي، أقله ليس إلى مسافات بعيدة يوحيها وصف رئيس لآخر بأنه قاتل!

في الأبعد، يبدو تصعيد الموقف مع روسيا رسالة من بايدن إلى أوروبا، تحديداً إلى ألمانيا، بشأن ضرورة توحيد السياسة بين ضفتي الأطلسي تجاه موسكو، ومنعها من شق الصف الأوروبي عبر ملف الغاز. فرغم ترحيب ألمانيا بمواقف بايدن، إلا أن برلين على خلاف مع واشنطن بشأن مشروع خط غاز «نورد ستريم 2» الممتد بين روسيا وألمانيا تحت البحر متجاوزاً أوكرانيا، وهو مشروع مكتمل بنسبة 90 في المائة، ويعد من وجهة نظر واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية، حصان طروادة روسياً لشق الموقف الأوروبي تجاه روسيا. وقبل أيام دعا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، «جميع الكيانات المشاركة» في مشروع خط الغاز الذي تقوده شركة «غازبروم» الروسية للطاقة المملوكة للدولة، للتوقف الفوري عن العمل عليه تحت طائلة التعرض للعقوبات الأميركية.

ولا يبدو لي أن أميركا معنية كثيراً بالشغب الروسي في ملفات أخرى كالملف السوري، وقد لا يكون لديها مانع من استنزاف بوتين في وحول هذه الحرب المستمرة منذ عشر سنوات، في الوقت الذي تمسك فيه أميركا بمعظم المقدرات الاقتصادية السورية في شرق البلاد، وتؤثر بشكل حاسم في القرار الدولي حول سوريا، الذي من دونه لن تتوفر شرعية سياسية لإعادة الإعمار الذي تراهن موسكو على عائداته.

أما من ناحية موسكو، فنحن أمام دولة تستثمر في الفراغات الاستراتيجية لإنتاج أدوار لها، والاستحواذ على أوراق تعينها على صيانة موقعها الدولي، الناهض على دعائم هشة.

من هنا تبدو منصة الاشتباك مع واشنطن، فرصة للدعاية السياسية عن أهمية وحضور روسيا في السياسة الدولية. ويتصرف بوتين بإزاء هذه الفرصة على قاعدة أنه أمام رئيس أميركي ضعيف، أو هكذا توحي تصريحاته. إنه استثمار لتكبير رأس مال السمعة والهيبة والحضور. فردود بوتين على بايدن جاءت خلال لقاء عبر الفيديو مع ممثلين عن المجتمع المدني في شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو عام 2014. ويعدها بوتين خطوة استراتيجية لبلاده، رغم أنها فقدت مفعولها الدعائي في السياسة الداخلية الروسية.

من الاشتباك مع واشنطن، إلى رعاية وساطات غامضة بين سوريا وإسرائيل، إلى استضافة «حزب الله» وتقديم اقتراحات لحل الأزمة اللبنانية (لاحظوا هنا الاستثمار في الفراغ الذي خلفه تعثر المبادرة الفرنسية)، إلى الطموحات البحرية العسكرية في المحيط الهندي والعسكري الاقتصادي في أفريقيا، تبدو السياسة الخارجية الروسية كأنها «شو» (عرض دائم) مهتم بالإبهار والاتجار بتوليد الانطباعات، أكثر منه بالحقائق الموضوعية الثابتة على الأرض.

لا واشنطن في وارد الذهاب بعيداً مع موسكو، ولا تريد موسكو من الاشتباك أكثر من مفعوله الدعائي. اشتباك بوتين – بايدن هو لحظة في مسار هذه العلاقة المحكومة أولاً وأخيراً بمزاج رجل «يملك» دولة هائلة بإمكاناتها، وضعيفة في واقعها… دولة تشبه مصارعاً أولمبياً جباراً، مصاباً بمرض عضال!