IMLebanon

توحيد المسارين في ظلّ إدارة بايدن

 

إنتخب الأميركيون بالأمس رأس الإدارة التي ستدير النظام العالمي وتضع شروط وقيود الأمن والإقتصاد لأربع سنوات قادمة. الوجه الدولي للإنتخابات الأميركية تكرّس منذ انهيار الإتّحاد السوفياتي، وفشل القوى العالمية الصاعدة استعادة الثنائيّة أو تكريس تعدّدية قطبية تتقاسم الأدوار بإعتراف دولي. تقف كلّ القوى الدولية على اختلاف أحجامها وأدوارها موقفاً متفائلاً من هذه الإنتخابات، وتُمنّي النفس بتطوير علاقاتها مع الإدارة الجديدة، بالرغم من أنّ تجربة هذه القوى مع الإدارات سواء الديمقراطية منها أو الجمهورية لا توحي سوى بالطمأنينة الحذرة في أفضل الأحوال.

 

يسجّل للرئيس ترامب نجاحه في ممارسة أقصى درجات الضبابية في السياسة الخارجية، وفي الوقوف في المكان الذي لا يوحي بالأمان لأحد. هو مع الجميع وفي مواجهة الجميع، لا تحالفات ولا مواجهات، بل قواعد إشتباك خاصة لكلّ حالة على حِدى. هو مع تركيا في المتوسط حتى عودة فرنسا وإيطاليا إلى بيت الطاعة الأميركي، وهو مع روسيا التي تسهل لإسرائيل ضرب الأهداف الإيرانية في العمق السوري، فيما يدفع التركي لاستفزازها في إدلب وفي «ناغورني كاراباخ». يراقب المشهد الليبي وحركة المرتزقة القادمة من سوريا والإنفلات الأمني وتسرّب الإسلاميين إليها، ليضع ضوابط الفوضى وقواعدها. يعلن عداءه لإيران ويهددها لزرعها الإرهاب في المنطقة ويترك لروسيا الإختيار بين التعايش معها في سوريا أو إخراجها.

 

إستفاد ترامب من الدروس المسستقاة من حربيّ العراق وأفغانستان، وأهمها الإمتناع عن خوض معارك لصالح الغير بالقوة والوسائل الأميركية. حوّلت إدارة ترامب أصدقاء الولايات المتّحدة إلى حلفاء متمرّسين في الميدان واحتفظت بدورها في التّدخل لفرض قواعد اللعبة، وتثبيت ميزان القوى. هذا ما حصل مع قوى التحالف العربي في اليمن، تحوّلت دول الخليج إلى قوى عسكرية حقيقية تقاتل في العمق اليمني وعلى الحدود البرية والبحرية، وهذا ما حصل مع قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا التي تقابلت أكثر من مرة مع الحليف التركي، وهذا ما يحصل في العراق مع مصطفى الكاظمي الذي يواجه الموروث الأمني والإقتصادي الذي خلّفته الحكومات المتعاقبة على العراق التي فرضتها طهران والإدارات الأميركية السابقة.

 

القاعدة الذهبية التي أرساها ترامب على مستوى السياسة الخارجية في دول الشرق الأوسط، هي الفصل بين ماهو شأن محلي (Domestic) ينبغي للقوى الوطنية الحليفة معالجته، وبين ما هو استراتيجي يرتبط مباشرة بالمصالح الأميركية البعيدة المدى وبثوابت سياستها الخارجية. وهو ما يعود للولايات المتّحدة حمايته سواء بفرض عقوبات إقتصادية ومالية على أشخاص أو كيانات وفقاً لقوانين صيغت لكلّ حالة من الحالات، أو بوسائل ميدانية، تعبّر الضربات الجوية المجهولة الهوية عن أحد أشكالها البارزة.

 

يلتقي المساران اللبناني والسوري في تشكيل النسق الأميركي في السياسة الخارجية، و يقدّم لبنان النموذج الأكثر دلالة على الفصل بين ما هو محلي وما هو أميركي. يمثّل إطلاق ترسيم الحدود إستسلام حزب الله وحلفاؤه لتعليق الصراع المفترض مع إسرائيل إلى أجلّ غير مسمّى، وتحويله إلى مفاوضات مفتوحة وهو ما تريده الولايات المتّحدة. ويعبّر تفجيريّ مرفأ بيروت وموقع عين قانا عن قيود الإدارة الأميركية بشأن أسلحة حزب الله العاليّة الدقة. أما إلزام الحزب الإلتزام بالدستور والتخلي عن مصادرة القرار السياسي ووقف التهرّب الضريبي وتشكيل حكومة مقبولة من المجتمع الدولي وقادرة على الإصلاح، فهذا شأن لبناني يتعيّن على القوى السياسية وقوى المجتمع المدني تحقيقه مهما بلغت التضحيات.

 

وفي سوريا، يحقق الوجود العسكري الروسي الذي يغطي التدمير المنهجي لقدرات إيران العسكرية ومحاولاتها إقامة بنيّة تحتيّة عسكرية في الجولان، أحد أهداف السياسة الخارجية الأميركية، فيما يتحكّم قانون قيصر بأي مسار دولي أو إقليمي يحاول أخذ التسويّة في سوريا إلى حيث لا تريد الولايات المتّحدة. وتتحكّم الملفات المفتوحة بوجه الرئيس السوري بشار الأسد ورموز نظامه من استخدام الأسلحة الكيماوية وقتل وتعذيب المعتقلين بمستقبل العملية السياسية برمّتها، كما تؤمّن تركيا بدورها تبديد أحلام الرئيس السوري باستعادة السيادة على الشمال السوري. أما في ما عدا ذلك فتوقيت الدخول في العملية السياسية ومستقبل إيران في سوريا وضوابط الدور الروسي، فمسألة سورية داخلية لا تدخل في إهتمامات الولايات المتّحدة.

 

إنّ كل ما أثارته قوى الأمر الواقع في كلّ من لبنان وسوريا وطهران حول تغييرات متوقعة، بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، لن يلبث أن يهدأ. لا شك أنّ الإدارة الجديدة ستعيد الولايات المتّحدة إلى منظّمة الصحة الدولية وتخفف القيود على المقيمين غير الشرعيين بما يشير إلى التخلص من النزق الشخصي لدونالد ترامب، ولكنها قطعاً لن تفكر في تقويض ما توصلت إليه الإدارة السابقة في ملف التطبيع مع إسرائيل وترسيم الحدود، وفي ملف العقوبات على كلّ ما هو متصل بالإرهاب والإسلام السياسي، بل ستبني عليه. وتندرج في هذا الإطار العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على إيران وعلى الحرس الثوري الإيراني، إضافةً الى النافذة التي فتحت على لبنان عبر الوزير جبران باسيل وقبله الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس.

 

إنّ فرض عقوبات من قِبل وزارة الخزانة الأميركية على الوزير جبران باسيل يعني إسقاط مستقبل التحالف مع حزب الله، وهو رسالة موجّهة إلى الكتلة المسيحية الأكبرالتي اختارت تغطيته. ردود الوزير جبران باسيل التي عبّرت عن الخوف من الإستمرار بالتحالف مع حزب الله واستجداء التواصل مع الإدارة الأميركية، ستجعل من الوزير باسيل أكثر تبعيّة لحزب الله وستجعل التحالف معه أقل وطأةً وكلفة على الحزب وستقفل الخيارات الأخرى أمامه . كما أنّ العديد من الشخصيات المسيحية التي تتمتع بالحدّ الأدنى من الحيثية السياسية ستؤثر الخروج من كتلة سياسية يتعرّض رئيسها لعقوبات على خلفية فساد وتحالف مع حزب صُنف إرهابياً في العديد من دول العالم. والأهم من ذلك كله أنّ هذه الردود لن تحوّل المسألة اللبنانية إلى همّ أميركي، ولن تجعل منها جواز مرور لطهران لتحسين شروطها لدى الإدارة الأميركية.

 

إنّ أفول المبادرة الفرنسية وزيادة تعرض تحالف حزب الله / عون للعقوبات الأميركية يجعل إمكانية تشكيل أيّ حكومة ذات مغزى معدوماً. كما إنّ إمعان القوى السياسية الأخرى في استمرار المساكنة مع التحالف المذكور، تحت شعار الحفاظ على الإستقرار ومحاولة جذب الإهتمام الدولي، أثبت فشله منذ الفراغ الرئاسي وعلى امتداد هذا العهد، وهو تبرير لقرار الإستسلام لقوى الأمر الواقع. إنّ جلّ ما يمكن أن يؤديه هذا السلوك هو إلحاق المسار اللبناني بالمسار السوري بتوحيد نموذج الإنهيار الإقتصادي، وتوسيع الستاتيكو القائم بما يعزز هيمنة حزب الله السياسية والأمنية على لبنان. لن تكون سوريا ورئيسها، الذي يبحث عن بقعة ضوء مع اقتراب إنتهاء ولايته في منتصف العام المقبل، بمنأى عن التطوّع لتقديم خدماتها الأمنية مجدداً في لبنان.

 

يسجّل للديمقراطيين ديناميكيتهم الضعيفة وانكفاؤهم في سوريا على امتداد ولايتين للرئيس أوباما، ويسجّل للساسة في لبنان أنهم تحولوا إلى أشلاء أفقدت لبنان كلّ نقاط القوة. فهل تقرأ الإدارة الأميركية الجديدة الدروس المستفادة من تجربتها في سوريا أم تكرر التجربة في لبنان وسوريا معاً، فنستعيد كابوس وحدة المساريّن في ظلّ إدارة بايدن؟