على وَقع الخلط الحاصل بين رسائل التحذير من إمكان توسيع الحرب وتلك التي حملت التطمينات، فإنّ السباق ما زال قائماً بين الخيارين. وللفصل بينهما باتَ الرهان معقوداً على قدرة الادارة الاميركية في ضبط الايقاع المطلوب لخفض التصعيد وفق ما قالت به مبادرة الرئيس جو بادين وتبنّاها مجلس الأمن الدولي. وهو ما طرح مزيداً من الاسئلة حول مدى قدرتها على لجم الرؤوس الحامية في ظل فقدان الرؤية السياسية للحل. وعليه، ما هي الدلائل والمؤشرات؟
لم تستقِر المواقف الاسرائيلية بعد على موقف واضح وثابت من وجود قرار يُنهي السباق الحاصل بين الخيارات السياسية لتحقيق المطالب من دون توسيع نطاق الحرب او الاستمرارفي الخيارات العسكرية سبيلاً لإعادة الوضع الى طبيعته في الشمال، وسط تخبّط غير مسبوق في تقدير الوقت اللازم لإنهاء العمليات العسكرية في قطاع غزة. وكل ذلك يجري بالتزامن مع المواقف والاجراءات الاميركية الهادفة الى تغليب الحلول السياسية بتناغم كامل بين مسؤولي البيت الابيض ووزارتي الدفاع والخارجية وصولاً الى المخابرات المركزية والأمن القومي، بحيث توحّدت اللغة التي تتحدث عن الحاجة إلى حلول سياسية واستبعاد أي خيار آخر لن يستطيع احد تقدير ما يمكن ان تقود اليه أي عملية عسكرية من خارج قواعد الاشتباك القائمة حتى الأمس، والتي لا يمكن احتساب نتائجها على مستوى المنطقة والعالم.
ومردّ هذه القراءة يعود الى حجم الاستقرار الذي يعيشه مختلف القادة الاميركيين، ومعهم قادة الحزب الديموقراطي عشيّة دخول البلاد في مدار الانتخابات الرئاسية التي باتت تتحكم بأدائهم وتوجهاتهم بعدما تحولت هدفا رئيسيا لا يشاركه آخر، في إطار مواجهة ضغوط مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب الداخلية، وما تسمح له الظروف من توجيه انتقادات موجِعة للديموقراطيين. كما تلك العوامل الخارجية القاسية التي تسعى الى إسقاط بايدن، على قاعدة الحاجة لعودة ترامب الى البيت الابيض مطلع السنة الجديدة، معتبرين انّ الأجواء تسمح بمعركة رئاسية راجحة للخروج من مجموعة العقد التي خلّفتها انتخابات 2020 مع الديموقراطيين.
وعلى وقع هذه المعطيات وما يمكن ان تقود اليه، توقفت مراجع ديبلوماسية وسياسية أمام حجم الضغوط التي تمارسها الادارة الاميركية من اجل الاعلان اليوم قبل الغد عن خريطة الطريق المؤدية الى «اليوم التالي» في قطاع غزة وجنوب لبنان، كما على بقية الساحات المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً وصولاً الى الملفات الداخلية، ومنها الانتخابات الرئاسية في لبنان والأوضاع الداخلية في عدد من هذه الدول، كما بالنسبة الى مصير الاتفاق النووي الايراني وما يمكن ان يجنيه بايدن من اي خطوة ايجابية متقدمة تعطيه الزخم المطلوب لاستراتيجيته المعتمدة من أجل البقاء في البيت الأبيض ولاية ثانية.
وما يؤسّس لهذه النظرية هو ما تَكوّن لدى الادارة الاميركية من اقتناع بأنّ مفتاح الحل موجود في عهدة الحكومة الاسرائيلية التي ان توصلت الى اتفاق نهائي لوقف النار في قطاع غزة وتبادل الاسرى والمعتقلين، يمكن ان يؤدي الى تهدئة موازية في جنوب لبنان والبحرَين الاحمر والعربي، كما في العراق وسوريا قبل البحث في الترتيبات الديبلوماسية والسياسية التي تسمح باستئناف مساعي التطبيع مع المملكة العربية السعودية وصولاً الى الانتخابات الرئاسية في لبنان بعد الإعلان عن «اتفاق الاطار» الخاص بتظهير الحدود اللبنانية – الاسرائيلية وتثبيتها، الى ما هنالك من ملفات عالقة على رصيف الإنتظار لوقف الحرب في غزة.
وبناء على ما تقدم، لم يعد ينفع التوقف أمام مجموعة المواقف الداعية الى وقف الحروب، والتي أطلقت من واشنطن في الايام القليلة الماضية في انتظار أن يلاقيها قادة إسرائيل و»حماس» والدول الداعمة لها، خصوصا انها سلكت مسارا كبيرا انطلق بعد فشل المحاولات السابقة من قرار مجلس الأمن الدولي الداعي الى وقف النار بناء على اقتراح أميركي استنسخَ في جزء منه من اقتراحات اسرائيلية واخرى حملته إيّاها الدول العربية والخليجية والمملكة العربية السعودية في مقدمها، وهو نال موافقة جميع أعضاء المجلس باستثناء روسيا التي امتنعت عن التصويت بدلاً من استخدام حق النقض.
ولا يتجاهل المراقبون انّ ما تم التوافق عليه أعقبته الادارة الاميركية بجولة مكوكية لوزير خارجيتها لتسويق الاقتراح، واتبعتها بدعوات متلاحقة للقادة الاسرائيليين بدءاً بقادة المعارضة وصولاً الى وفد من قيادة الاركان وقادة اجهزة المخابرات، الساعين الى اعادة جدولة برامج المساعدات العسكرية المطلوبة والاسلحة الثقيلة المجمدة والتي قادت وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الى واشنطن ولقاءاته الموسعة التي شملت الموفد الرئاسي الاميركي عاموس هوكشتاين في محاولةٍ لفك الحظر المحدود على أنواع منها والتفاهم على الخطوات المقبلة.
وما يجدر التوقف عنده هو ما انتهت إليه مفاوضات غالانت الذي أقرّ في نهاية اجتماعاته الاخيرة في وزارتي الخارجية والدفاع والبيت الابيض بالسعي الى تغليب الحلول الديبلوماسية والسياسية على العسكرية منها. وكشفت مراجع معنية انّ غالانت اتكَأ في مراجعته على الرعاية الاميركية للخطوات التي نفذها الجيش في رفح وبعض العمليات المشتركة مع المخابرات الاميركية كتلك التي جرت في مخيم النصيرات، والتي عبّرت بما رافقها من مجازر كان بايدن يخشاها من دون أي انتقاد أميركي. كما تزامنت مع سيل المواقف التي عبّرت عنها دوائر البيت الأبيض والخارجية الاميركية التي قال المتحدث الإقليمي باسمها صامويل وربيرغ ان تركيز واشنطن في هذا الوقت مُنصَب على المفاوضات بين إسرائيل وحركة «حماس»، على أمل أن يؤدي الاتفاق بين الطرفين إلى تهدئة الوضع في المنطقة». مضيفاً: «انه وعلى رغم من أننا لم نصل الى هذا الاتفاق بين «حماس» وإسرائيل، لا نزال نبذل كل ما في وسعنا لِحضّ الإسرائيليين واللبنانين على تهدئة الوضع».
إلا ان ما يجدر التوقف عنده، تضيف المراجع الديبلوماسية، هو ما تضمنه موقف وزير الدفاع لويد اوستين بعد لقائه غالانت الذي وازَن بين الاتفاق مع حماس و»حزب الله» مُحمّلاً الطرفين المسؤولية تجاه ما هو مطلوب من خطوات. فقال ان بلاده «تسعى في شكل عاجل للتوصل إلى اتفاق ديبلوماسي يسمح للمدنيين الإسرائيليين واللبنانيين بالعودة إلى منازلهم على جانبي الحدود»، محذّراً من «أن اندلاع حرب بين «حزب الله» وإسرائيل سيكون أمرًا مدمرًا». ولكنه ربط موقفه هذا بما قدّم له في بداية اجتماعه مع غالانت بقوله «ان استفزازات «حزب الله» تهدد بجَر الشعبين الإسرائيلي واللبناني إلى حرب لا يريدانها، وانّ مثل هذه الحرب ستكون كارثة على لبنان وستكون مدمرة للمدنيين الإسرائيليين واللبنانيين الأبرياء».
وعند هذه المواقف الفسيفسائية لدى الادارتين الاميركية والاسرائيلية وما يلاقيها من تشكيك في عواصم دول محور الممانعة، يقول المنطق ان التعهدات الاميركية بالتهدئة باتت في ميزان التجربة الدقيقة في انتظار التثبّت من قدرتها على لجم الرؤوس الحامية لدى طرفي النزاع في تل أبيب من جهة وغزة ومحاور الإسناد من جهة أخرى. وهو أمر ربطته المراجع المراقبة بما يمكن ان تقدمه الاطراف كافة من معطيات تسهل التفاهم على خطط الادارة الاميركية التي حظيت بدعم دولي وعربي وخليجي غير مسبوق، وما بقيَ رهن مواقف محصورة بكل من تل أبيب وقيادة حماس في إطارهما الضيق.