يعترف جوني عبده بأن حكم سركيس كان يعتنق مشروع إيصال بشير الجميّل إلى سدّة الرئاسة بواسطة الاجتياح الإسرائيلي
لا يُعدّ تاريخ الجيش اللبناني والمخابرات اللبنانيّة حتى اتفاق الطائف تاريخاً مشرّفاً، بأي معنى من المعاني الوطنيّة. عقيدة الجيش التي وضعها فؤاد شهاب لم تعتبر أن إسرائيل هي العدوّ، بل أن اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينيّة هم الأعداء. الغاية كانت الحفاظ على نظام الهيمنة الطائفيّة بأي ثمن من الأثمان. الدولة حرصت طوال العقود السابقة على فكرة أن ما يحكم لبنان مع العدوّ هو «هدنة» وليس حالة حرب، حتى ولو اجتاح العدوّ لبنان واحتلّه وقصفه مرّات عديدة.
يتهم قائد عسكري من رجالات الحركة الوطنيّة اللبنانيّة في مذكّرات غير منشورة له (أتمنّى على عائلته لو أنها تنشرها لما فيها من معلومات هامّة تفيد الرأي العام اللبناني والعربي) أن قادة الجيش اللبناني وكبار الضبّاط كانوا (في فترة ما قبل الحرب) يصفّقون ويهتفون لرؤية طائرات العدوّ الإسرائيلي. لم يكن هناك من رادع أخلاقي أو وطني للتعاون مع العدوّ الاسرائيل، والقانون كان صامتاً عن ذلك. يكفي أن فؤاد شهاب، – حسبما ورد في وثائق أميركيّة منشورة حديثاً ولم تنف أي جهة مضمونها ــ نصح العدوّ في الستينيّات بتهديد لبنان كي يشجّع الدولة على قمع المقاومة الفلسطينيّة.
كان إميل لحّود (مهما قال في ذمّه منتقدوه من الفريق الذي فشل في رشوته) أوّل قائد جيش يحمل عقيدة معاداة الصهيونيّة ودعم مقاومة العدوّ. كان سابقوه شاركوا جميعاً في الحرب الأهليّة، متخذين جانب الفريق الانعزالي المتحالف مع العدوّ. إميل لحّود ضرب تاريخاً من الخنوع والتعاون مع العدوّ، لكنه لم ينجح في ترك ثقافة معاداة إسرائيل بناء على الذين خلفوه في الموقع، وبناء على الدور الذي لعبه إلياس المرّ في عدوان تمّوز (هذا الذي أسدى النصح الطائفي للعدوّ من أجل أن ينجح في حربه ضد لبنان).
إن الرجل قد يكون مسؤولاً عن جرائم حرب مثله مثل أصحاب الميلشيات
وعقيدة الجيش الجديدة (بعد الطائف) أصبحت عرضة للتفريط مقابل ساعات من الـ«روليكس».
تاريخياً، عملت أجهزة المخابرات والأمن العام تعمل بإمرة رئيس الجمهوريّة فقط. وكانت تلك المؤسّسات ناشطة ليس في خدمة لبنان بقدر ما كانت ناشطة في خدمة المصلحة الأميركيّة في الحرب الباردة. والذي يراجع أوراق فريد شهاب يقتنع بأنه أنشأ جهازاً مخابراتياً خاصاً (بتمويل مجهول) لحساب جهة عالميّة معادية للشيوعيّة. و«المكتب اللبناني» كان مشاركاً في الحكم، لا بل إنه كان سلطة موازية لسلطة رئيس الجمهوريّة في عهد شارل الحلو (هذا ما عناه ريمون إدّه في حديثه عن «الازدواجيّة» في الحكم). وجول بستاني سبق جوني عبده في إدارة المخابرات اللبنانيّة. تدرك ماهية العقيدة (غير) الوطنيّة للجيش اللبناني قبل الطائف عندما تقرأ عن تاريخ رجل تطوّع في الحرب العالميّة الثانية في البحريّة الفرنسيّة. وتطوّعه في البحريّة الفرنسيّة لم يشب تدرّجه في الجيش اللبناني بل هذا ساعده لما للمُستعمِر الغربي من احترام وتقدير. لا نستطيع أن تقول إن جول بستاني هو الذي فجّر الحرب الأهليّة بل هو بذل المستطاع كي يؤجّج ويشعل نارها متى خمدت. هو الذي أنشأ ميلشيا خاصّة به، «التنظيم»، والتي كانت معروفة بأنها أقرب للعدوّ من حلفائه، «الأحرار» و«الكتائب» و«القوّات». ويروي رياض تقي الدين (رئيس أركان أسبق في الجيش) أن جول بستاني كان «في الفترة الأولى من الحرب الأهليّة يقوم بإرسال عناصر من الشعبة الثانية إلى خطوط التماس… لإشعال الجبهات في وقت متزامن» (راجع كتاب نبيل المقدّم، «وجوه وأسرار من الحرب اللبنانيّة»، ص. ٢٦٠). ويلمّح عصام أبو زكي (في «محطات في ذاكرة وطن») إلى أن بستاني سهّل تهريب عملاء للعدوّ إلى خارج لبنان في السبعينيات.
جوني عبده خلف جول بستاني في إدارة المخابرات. وهو برز في الجيش اللبناني بسبب ولائه وطاعته وألاعيبه السياسيّة. عمل مرافقاً لإميل بستاني لكنه لم يكتفِ بطاعة رئيسه، بل كان باعترافه يعمل أيضاً لحساب المكتب الثاني (أي أنه كان يتجسّس على رئيسه، بستاني لحساب غابي لحّود). لكن عبده بقي قريباً من خليفة بستاني في الجيش اللبناني، أي جان نجيم، الذي مات في حادثة طائرة الهليكوبتر (لم يكن مرافقه، عبده، معه في الطائرة لأنه حسبما روى كُلف بملاقاة ابنة نجيم في المطار).
لا زال دور عبده في الحرب الأهليّة اللبنانيّة مجهولاً، ولا يشمل هذا سنوات إدارته لجهاز المخابرات. لكن عبده يزيد من الغموض غموضاً عندما يروي أحاديث متناقضة وعصيّة على التصديق. خذ مثلاً عضويّة عبده السريّة في المجلس الحربي الكتائبي عند بداية الحرب. وكانت علاقة عبده بالكتائب معروفة للرئيس سليم الحصّ عندما أراد رئيس الجمهورية في حينه، الياس سركيس أن يعيّنه في إدارة المخابرات. لكن عبده أدلى مؤخراً بشهادات لقناتي «الجزيرة» و«العربيّة»، من دون أن يكلّف نفسه عناء التنسيق بين الشهادتيْن. يقول عبده إن خدمته (وهو في الجيش اللبناني) في المجلس الحربي الكتائبي كانت لبضعة أشهر فقط، وأنها كانت استشاريّة في شؤون إنشاء جهاز مخابراتي كتائبي. لكن جهاز المخابرات الكتائبي كان غير المجلس الحربي. ثم لماذا يستعين الحزب المتحالف مع الـ«موساد» (والذي أشرف الـ«موساد» على تكوين أجهزته الأمنيّة والعسكريّة) مع عبده مع أنه لم يكن قد تبوّأ بعد إدارة جهاز المخابرات ولم يكن له علم أو معرفة به. ولماذا يتطوّع عبده لفترة قصيرة جداً في خدمة بشير الجميّل؟ وقد كانت علاقة عبده مع بشير الجميّل في أوّل سنوات الحرب معروفة وكانت العلاقة مكمن اعتراض سليم الحص عليه.
لكن سركيس بعد أن تبوّأ منصب الرئاسة اختار عبده مديراً لجهاز المخابرات. وكان عبده قد أبلى بلاء حسناً في لفت نظر سركيس إليه عندما انتحب أمام الملأ في مأتم فؤاد شهاب، فقدّر له سركيس إخلاصه للمعلّم. لم يكن بمقدور سركيس أن يعيّن غابي لحّود فعيّن هذا بديلاً عنه. لكن عبده أدار جهازه بدرجة كبيرة بالنيابة عن السفارة الأميركيّة في بيروت. ولم يكتفِ عبده بإدارة جهاز المخابرات بل أنشأ مليشيا (مموّلة ومدعومة أميركيّاً) في داخل الجيش اللبناني تتبع له مباشرة (باسم «المكافحة»). وكان عبده يدير معارك ومجازر وتفجيرات فقط ضد المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة، وكان ــ كما كل القيادة الانعزاليّة الطائفيّة في اليرزة ــ مهووساً بـ«جيش لبنان العربي». وكان الثلاثي الطائفي، سركيس – بطرس ــ عبده يريدون ترفيع ومكافأة الجنود الذين انشقوا عن الجيش وحاربوا في صفّ العدوّ الإسرائيلي فيما أصرّوا على معاقبة وفصل ضباط وعناصر «جيش لبنان العربي» بقيادة أحمد الخطيب. والطريف أن عبده، الذي انتمى إلى فريق صارخ في طائفيّته كما روى سليم الحصّ في شهادته عن تلك الحقبة، يتهم الحصّ بالطائفيّة إذا ما اعترض على طائفيّة الحكم السركيسي. وكان عبده يحرّض سركيس ضد الحصّ كي يأتي الأوّل برئيس حكومة مطواع.
وعبده لا يتفق على رواية. هو لا ينفي أنه قرّر من عنده التوقّف عن تزويد رئيس الحكومة اللبنانيّة، سليم الحص، بتقارير المخابرات لأنه قرّر أن الحصّ غير عليم بكيفيّة التعاطي مع التقارير (فيما كان هو يزوّد الميلشيات اليمينيّة بما تريده). ويقول إن تسيّب الحصّ في التصرّف في المعلومات المخابراتيّة أدّى إلى مقتل عملاء له: في «العربيّة» يقول إن عدد العملاء كان خمسة لكن في «الجزيرة» قال إن العدد كان ثلاثة فقط. قال على «الجزيرة» إنه لم يكن يمدّ الياس سركيس بتسجيلات لنقد سليم الحصّ في مكالمات هاتفيّة (هو قال «شتائم» لكن الذي يعرف سليم الحص ولو بصورة عابرة يجزم بأن الرجل لا يشتم أحداً)، لكنه في «العربيّة» اعترف أنه كان يمدّ سركيس بتسجيلات تنصّت على مكالمات الحص وفيها نقد لسركيس. وهو نفى أن يكون الجيش اللبناني قد عاون بشير الجميّل في الحرب على «الحنش»، لكنه قال عكس ذلك في كتاب نقولا ناصيف، «المكتب الثاني: حاكم في الظلّ»، (ص. ٦٤٠).
ولم يرتح عبده وسركيس والقوى الانعزاليّة إلّا بعد أن عثروا على رئيس حكومة مطواع وليّن ويسهل إقناعه بالحجج غير الفكريّة، أعني شفيق الوزّان. ويكيل عبده المديح على أضعف رئيس حكومة في تاريخ لبنان الطويل. (كان بشير الجميّل يحتقره بالرغم من مطواعيّته وأخبرني الإعلامي الراحل عرفات حجازي أن الجميّل عندما استدعاه لتهديد الشعب اللبناني بقرار إسرائيل اجتياح لبنان، فإنه طلب منه أن ينقل رسالة من الشتائم السوقيّة البذيئة إلى الوزّان). أذكر أنني عندما قابلت الوزّان في منتصف الثمانينيات عند إعداد أطروحتي الجامعيّة وكنتُ أسأله عن قرارات حكم سركيس والجميّل وكان يجيبني: لم يكونوا يستشيروني بشيء. لم أكن على علم بما يفعلون. وعندما سألته: ولماذا لم تستقل؟ كان يصمت. عن هذا الرجل الضعيف الذي أراده الثلاثي سركيس ــ عبده ــ بطرس لأنه لم يكن صلباً كما سليم الحص النزيه، يقول عبده إنه كان أشجع الرؤساء في مواجهة النظام السوري. وهو يقول إن الجيش اللبناني لم ينشقّ إلى جانب القوى الانعزاليّة إلّا بعد حركة أحمد الخطيب ونشوء «جيش لبنان العربي». لكنه هو يناقض شهادته لأنه كان يعمل في المجلس الحربي الكتائبي قبل أن يتشكّل «جيش لبنان العربي». وكان كل ضبّاط الجيش اللبناني التابعين للقيادة في المنطقة الشرقيّة منخرطين في المعارك في صف القوى الانعزاليّة. ويخلط عبده بين الأمور، فيصرّ على أنه كان هناك علاقة صداقة متينة و«بزنس» بين طوني فرنجيّة وباسل الأسد (لكن باسل الأسد كان في سن السادسة عشرة عندما قُتل طوني فرنجيّة). ولا يزال عبده يُبرّر للانعزاليّين تعاونهم مع العدوّ الإسرائيلي بحجّة أنه افتقروا إلى السلاح، من دون أن يتذكّر أن سلاحاً إيطاليّاً وفرنسيّاً وبريطانيّاً وألمانيّاً وأميركيّاً وأردنيّاً وسعوديّاً وتشيكيّاً كان يردهم.
وكان عبده يحافظ على علاقات مع زعامات إسلاميّة رجعيّة (الباقة المعهودة، من كامل الأسعد إلى صائب سلام إلى تقي الدين الصلح وطبعاً، وليد جنبلاط، الذي حافظ على علاقة سريّة معه طيلة سنوات الحرب فيما كان يلقي الخطب ضده تمويهاً). وكان سمير فرنجيّة هو صلة الوصل بين عبده وبين جنبلاط، خصوصاً في تلك الحقبة التي حاول فيها عبده (عبر لقاءات سريّة في منزله قبل ان يفتضح أمرها عند أركان الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة) أن يعزّز نظام الهيمنة الطائفي عبر إنشاء ثنائيّة مارونيّة ــ درزيّة تستبدل الثنائيّة «المارونيّة-السنيّة» (المفترضة لأن رؤساء لبنان لم يتشاركوا في الحكم مع رئيس الحكومة). والاعتماد على الزعامات التقليديّة المحتضرة كانت هي فكرة عبده لبشير كي يصبح مقبولاً عند المسلمين.
ثم يتحدّث عبده بزهو عن تملّكه للمعلومات وعن إبهاره الأميركيّين الذين دعوه إلى واشنطن للاجتماع بقادة المخابرات الأميركيّة. لكن الموضوع الذي أبهر الأميركيّين به كان مغلوطاً. هو يتحدّث عن اغتيال السفير الأميركي فرنسيس ميلوي في عام ١٩٧٦ ويقول إن الاغتيال كان من تخطيط جورج حبش شخصيّاً (راجع كتاب نقولا ناصيف، ص. ٥٨٨). وهذا غير صحيح: حبش لم يكن يُخطّط لاغتيالات، واغتيال ميلوي كان حادثاً عفويّاً غير مخطّط له، من قبل تنظيم لبناني ثوري أوقف صدفة سيّارة السفير في منطقة رأس النبع. ثم يروي عبده خبر زيارته لواشنطن فيقول إنه قابل ويليام كيسي في زيارته في عام ١٩٧٩ (راجع كتاب ناصيف، ص. ٥٨٩)، بينما كيسي لم يصبح مديراً للمخابرات إلا في يناير عام١٩٨١. وفي شهادته على «الجزيرة» يقول إنه قابل كيسي والأدميرال ستاسفيلد ترنر (وترنر كان سلف كيسي في المنصب، أي أن زيارة عبده جمعت في منصب واحد مديريْن معاً).
ويعترف عبده بأن حكم سركيس كان يعتنق مشروع إيصال بشير الجميّل إلى سدّة الرئاسة بواسطة الاجتياح الإسرائيلي. وهنا يحاول عبده أن ينفي علاقة الحكم بالعدوّ الإسرائيلي ويصرّ أنه كان لسركيس موقف مبدئيّ ضد العدوّ. لكن إذا كان هذا صحيحاً، فلماذا لم يتخذ سركيس موقفاً مبدئيّاً ضد الاجتياح في عام ١٩٨٢ ولماذا انشغل هو وبطرس في توظيف الاجتياح لخدمة مصالح العدوّ ضد المقاومة في لبنان؟ ولماذا تبنّى سركيس مرشّح أرييل شارون في لبنان؟ ويزعم عبده أن «تعريف» بشير بالأميركيّين (من قبل عبده) كان من أجل إبعاده عن إسرائيل، كأن المشروع الأميركي آنذاك (أو اليوم) هو منفصل عن المشروع الإسرائيلي. ثم رواية عبده عن علاقة فجائيّة بين بشير والأميركيّين تتناقض مع ما ورد في مقالة بوب وودورد «تحالف مع زعيم لبناني» في «واشنطن بوست» في ٢٩ أيلول، ١٩٨٧ عن علاقة مخابراتيّة مبكّرة (أوائل السبعينيات) لبشير مع الأميركيّين، كما أن الجميّل زار واشنطن بصورة منتظمة قبل أن يرتّب عبده زيارة له في صيف ١٩٨١.
وينفي عبده أنه كان يلتقي مع إسرائيليّين وينفي حتى أن يكون قد قابل أرييل شارون، فيما كان الأخير يعتبر منزل عبده بيت ضيافة، ويقول عن عبده إنه «صديقي» (ورد وصف عبده من قبل شارون في ما يسمّى بـ«أوراق شارون»، وهي الأرواق القانونيّة المعدّة لمحكمة صبرا وشاتيلا في بلجيكا، والتي نشرت بعضها جريدة «غارديان» البريطانيّة). ويزعم عبده أنه كان يعطي مفتاح منزله لفيليب حبيب كي يلتقي بشارون، ومن دون أن يكون حاضراً (وأسباب اللقاء في منزله، غير مقنعة البتّة إذ انه يقول الآن إن ذلك كان من أجل توفير الوقت لأن الرحلة إلى فلسطين المحتلّة تستغرق ٤٨ ساعة… وكان فيليب حبيب يركب الجمل للسفر). نسي عبده أن المراجع الإسرائيليّة تحدّثت عنه: كيف كان يحثّ قوّات الاحتلال الإسرائيلي على تكثيف قصفها على بيروت. والأهم، إن كتاب «حرب لبنان الإسرائيليّة» لزئيف شيف وإيهود يعاري (وهي رواية مبنيّة على المصادر الرسميّة الإسرائيليّة، العلنيّة والسريّة) يذكر أن جوني عبده — لا أمين الجميّل — هو الذي كان مرشّح الحكومة الإسرائيليّة الرسمي لخلافة بشير الجميّل في رئاسة لبنان (ص. ٢٤٨ من الكتاب المذكور). كيف زكّاه العدوّ من دون أن يعرفه؟ إلّا إذا كان هناك شبيه لعبده انتحل صفته وجال في بيروت والتقى مع إسرائيليّين واحتضن أرييل شارون — ومن دون علم البريء عبده (الأصلي، لا منتحل الصفة).
يرد اسم عبده في وثيقة من وثائق «ويكليكس» عن قائمة المرشحين لرئاسة الجمهوريّة في ٢٠٠٧، لكن الديبلوماسي كاتب التقرير يضيف أن عبده هو على «قائمة دفع الحريري» (الكلمة المُستعملة هي «بيرول»، راجع الوثيقة ذات تاريخ ٢٣ أكتوبر، ٢٠٠٧). وفي وثيقة أخرى يرد اسمه مع التشكيك بصدقيّة كلامه، وأنه قريب من نازك الحريري (وترد كلمة «بيرول»، مرّة أخرى). كان عبده في الماضي يصرّ أنه ليس مستشاراً للحريري وإنما «صديق» له. صديق بمرتّب، يا عبده؟ وماذا عن حمله لحقيبة المال ومحاولته رشوة إميل لحّود؟ هل كانت هذه مهمّة صداقة أيضاً؟ لكن أحداً لم ينسف مصداقيّة عبده بقدر ما نسفها هو بنفسه: هو جزم بعد اغتيال الحريري أن الأخير لم يكن يعلم، ولم يكن موافقاً على القرار ١٥٥٩، لكنه منذ سنتيْن بات يقول إن كاذباً مَن يزعم أن الحريري لم يكن موافقاً على القرار ١٥٥٩، وأن الحريري كان متحمّساً له. وعبده هو الذي طلع بنظريّة أن نظرة المسلمين واليساريّين إلى بشير الجميّل تغيّرت لأنه تغيّر بعد انتخابه ولأن الشعب اللبناني أُعجِب بأدائه بعد تنصيبه من قبل العدوّ. أي أداء، يا جوني؟ المسافة بين تنصيبه وبين محاكمته الميدانيّة من قبل حبيب الشرتوني كانت أيّاماً فقط. الذي أبهرنا في بيروت الغربيّة هو حبيب الشرتوني ونبيل العلم، لا الجميّل.
ليس الخلاف مع عبده على السياسة. إن الرجل بشهادات عديدة قد يكون مسؤولاً عن جرائم حرب مثله مثل أصحاب الميلشيات. كما أنه كان على علاقة وطيدة بالعدوّ الإسرائيلي (قبل أن يتقرّب من النظام السوري عندما سعى رفيق الحريري إلى إيصاله إلى رئاسة الجمهوريّة كي يستقيم له الحكم المطلق — وكان محمد حسنين هيكل يقول ما معناه إنه لم يثق بالحريري لأنه كان يعمل على إيصال عبده هذا إلى رئاسة الجمهوريّة). لستُ معجباً بجميل السيّد لكن خصوم السيّد في «14 آذار» يتهمونه بتعطيل جواز سفر لكاتب أو بوضع مراقبة على شقّة لمعارض أو بالصراخ على نائب على الهاتف، لكن هذه أفعال — وإن كانت مستنكرة — لا ترتقي إلى مصاف جرائم الحرب. لقد كشف محسن إبراهيم في ٦ أكتوبر ١٩٨١ في مؤتمر صحافي عن دور جوني عبده في مخططّ تفجير واغتيالات في بيروت الغربيّة (وكان أبو الهول هو الذي كشف الشبكة تلك حينها). لكن عبده اليوم هو «مُحلّل» يدور على الشاشات وينظّر في الشأن اللبناني والإقليمي. وهو لا يكترث لمصداقيّته أبداً. والمحاسبة ليست واردة في النظام السياسي، ولا حتى على الذين تعاونوا مع العدوّ في عدوانه. لا، وعبده هذا يعيّر المقاومة اليوم عبر القول إنها كانت في ١٩٨٢ ترمي الأرز والورود على المحتلّ. نسي عبده أن الذين أسّسوا «حزب الله» انشقّ بعضهم من رحم حركة «أمل» رفضاً لقرار المشاركة في «لجنة الإنقاذ» مع بشير الجميّل.
إن تاريخ الحرب الأهليّة اللبنانيّة المفصّل لم يُكتب بعد. لكن لجوني عبده دور فيه لأنه استمرّ في العمل السياسي بعد موت بشير الجميّل. والذي رفع شأن عبده هو نفسه الذي رفع شأن إيلي حبيقة وداوود الصايغ وزاهي البستاني، وباقي شلّة «17 أيّار». رفيق الحريري مسؤول عن إنعاش رموز الخيار الإسرائيلي في لبنان بعد هزيمته. وعبده اليوم يريدنا أن ننسى أن له مؤلّفاً واحداً (من التسعينيات) بعنوان «الأسد..الاستراتيجيّة..الاستقلال» وفيه من التبجيل لحافظ الأسد ما لم يقله لا عاصم قانصوه ولا فايز شكر. كان ذلك عندما كان رفيق الحريري يعدّه للرئاسة. مات رفيق الحريري فيما يعيش عبده في باريس على أحلام ماضٍ لا أمجاد فيه، وأصبح حبيب الشرتوني رمزاً بطوليّاً لكثير من اللبنانيّين واللبنانيّات. مَن قال إن النصر يعصى على مُستحقّيه في لبنان؟