لم نسمع حتى الآن سوى أفكار، ونريد أن نصدّق أنها تُدرس بجديّة وبروح إيجابية، وأنها ستُنفّذ في الوقت المناسب، والأهم أنها ستكون فاعلة ومجدية. ذاك أن الحاجة إلى «قوة عربية مشتركة» لم تطرأ اليوم، بل إن هذه القوة كانت ضرورة عربية منذ زمن، ولم يمنع وجودها سوى تفكك الرابطة العربية، بسبب مسلسل طويل من المناحرات «الأخوية» وتناقض السياسات والأهداف. لذلك، بمقدار ما أن الفكرة طرحت في سياق سليم، أشاعت الانطباع بأن ثمة ملفاً عنوانه «معاهدة الدفاع العربي المشترك» استخرج من أحد الأدراج، ومن النسيان، ليُنفض عنه الغبار ويُعاد تلميعه. ففي العادة تتميّز التخطيطات العسكرية بالاستشراف والتحوّط لتؤمّن أكبر درجة ممكنة من الجهوزية في الوقت الطبيعي. وبما أن الإرهاب هو الهدف المحدّد فقد كان أحرى التفكير في «تحالف عربي» أو «عربي – إسلامي» لمحاربته غداة التحرّك الأميركي لإنشاء «التحالف الدولي»، خصوصاً أن العديد من دول الإقليم كانت (ولا تزال) لها مآخذ محقّة على الاستراتيجية، أو اللااستراتيجية الأميركية.
جاءت فكرة «التحالف العربي» من الأردن، الدولة المشاركة في «التحالف الدولي» والأقلّ انتقاداً له، ما يشير إلى هواجس لديها حياله. وجاء اقتراح «القوة العربية» من مصر، وهي أيضاً في «التحالف» لكن القيادة الأميركية لا تعترف بأن لديها مشكلة مع الإرهاب، داخلية وخارجية، تحديداً في ليبيا. ولا تزال أنقرة تفاوض واشنطن على شروط انخراطها في «التحالف» أو الاكتفاء بتقديم تسهيلات إليه، لأنها ببساطة لم تقتنع بأن أميركا في صدد ضرب الإرهاب حقاً، وإنما هي تدير الحرب وفقاً لمصالحها. ورغم أن الأميركيين أظهروا في البداية إدراكاً لأسباب ظهور «الوحش الداعشي» واشترطوا تغيير الحكومة العراقية ونهجها الفئوي الفجّ، إلا أنهم يبدون الآن وقد عادوا للتعامي عما يحصل على الأرض من تكرار للتجربة السوداء ذاتها على أيدي إيران وميليشياتها. ومع أن الوضع السوري ينطوي على معطيات مشابهة أو أكثر سوءاً مما حصل في العراق، إلا أن الأميركيين أنفسهم رفضوا منذ البداية أي طروحات تركية أو عربية تربط بين محاربة الإرهابَين معاً: «داعش» والنظام، فكان ذلك إشارة إلى الإيرانيين الذين شرعوا في غزوات جديدة للإجهاز على آخر معاقل المعارضة السورية المقاتلة.
وفي الحالين بات الإيرانيون وأتباعهم من «حزب الله» اللبناني وميليشيات العراق وشيعة باكستان وأفغانستان يقدّمون أنفسهم بصفتهم «أبطال محاربة التكفيريين»، فيما يدور العرب حول ذواتهم حائرين في ما يفعلونه لمواجهة الخطر الذي يدفعه الأميركيون والإيرانيون دفعاً إلى داخل بلدانهم. فهناك «داعش» وهناك المستفيدون من «داعش»، وهم يواظبون على تأكيد أنهم «يحققون تقدّماً» ضد هذا التنظيم، ولعل الأكراد مستفيدون أيضاً ولو بصدفة غير متوقعة لكن بتضحيات كثيرة، وهم ينوّهون بالمساعدة الإيرانية قبل الأميركية. المعركة تدور على أرض العرب، وحول مصير العرب، لكن العرب خارج الصورة، ولو كانوا يراهنون على إرهاب «داعش» أو سواه لوجد بينهم من يمكن إدراجه في نادي المستفيدين. وحده النظام السوري راهن على الإرهاب، وهو جالسٌ يتحيّن اللحظة التي انتظرها، إذ مارس كل أنواع الإجرام لضرب معارضيه ثم جاء «داعش» ليكمل له بعضاً مما فاته ثم جاء «تحالف دولي» ليستعين به ضد «داعش»… ولا عزاء لمحققي المجلس الدولي لحقوق الإنسان في جرائم الحرب التي ارتكبها هذا النظام.
أن تأتي «قوة عربية مشتركة» متأخرة أفضل من أن لا تأتي أبداً، فالتغوّل الدولي (الأميركي) والإقليمي (الإيراني والإسرائيلي) يمعن في فظاظة مكشوفة ضد دول الخليج رافقت المناورات الإيرانية الأخيرة في مضيق هرمز، وعبّر عنها كلام ملتبس لحسن نصرالله، إذ قال إن «هدف داعش الحقيقي هو مكة والمدينة» لأن «خلافة داعش غير ممكنة من دون الحرمين الشريفين… هذه هي المعركة التي نتجه نحوها». ويريد ظاهر الكلام أن يحذّر من أهداف هذا التنظيم، أما باطنه فيحتمل كل التفسيرات وليس أقلّها زعم أن إيران لم تكن بعيدة ولا غريبة عن ظهور «داعش» ونشأته في العراق، ثم كانت مع النظام السوري المحفّزَين الأقربَين على انتشاره في شمال سورية، وفقاً لوقائع وثّقها «الجيش السوري الحر». ولم تشأ الاستخبارات الأميركية الأخذ بهذه المعلومات التي وصلتها قبل ما يقرب من العامين، مثلما تعمّدت إنكار العلاقة المكشوفة بين إيران والحوثيين في اليمن حتى بعدما قام هؤلاء بانقلابهم وشرعوا في استدراج اليمن إلى فوضى حرب أهلية. وحين اتهم جون كيري إيران بـ «المساهمة» في سيطرة الحوثيين كان بالغ الحذر لئلا يسيء إلى مسار الاتفاق النووي، لكن الناطقة باسم الخارجية الإيرانية نبهته إلى أنه «يناقض مواقف سابقة لمسؤولين أميركيين».
كانت الجامعة العربية اقترحت أخيراً تشكيل قوة تدخل عربية مشتركة وفقاً لمعاهدة الدفاع العربي المشترك (عام 1950 كان هدفها محاربة إسرائيل) التي يراد الآن تفعيلها لمحاربة الإرهاب بالاعتماد على القوات المسلحة النظامية، لا الميليشيات بسبب المخاطر الأمنية التي تمثّلها هذه لاحقاً. وشددت الدراسة التي عرضها الأمين العام نبيل العربي على «أهمية التزام الدول العربية تولّي مسؤولية الدفاع عن الأمن القومي وإيجاد الوسائل المناسبة التي تكفل دحر الإرهاب واستعادة السلم والاستقرار في المنطقة»، لكنها دعت أيضاً إلى: 1) إطلاق عملية سياسية كبرى لتحقيق مصالحات وطنية ووفاق اجتماعي، و 2) إصلاح الآليات المؤسسية المعنية بالتعامل مع الفكر المتطرف والمنظمات الإرهابية، و3) درس أنجع الوسائل لاستعادة التضامن العربي وبحث أفضل المقاربات لتسوية النزاعات الإقليمية سلمياً… ولم تغفل كذلك ضرورة إجراء تقييم لـ «تجربة الدفاع المشترك» وعلى نحو خاص «تجربة قيادة الأركان المشتركة والسلبيات والعوامل التي أدّت إلى توقفها عن العمل». كل تلك الأهداف يمكن الاتفاق عليها مبدئياً، لكنها تبدو كما لو أنها تُطرح بعد فوات الأوان بالمقارنة بلغته الدول الإقليمية الثلاث (تركيا وإيران وإسرائيل) من قدرات وتأهل للتحكم بالأمن القومي العربي.
سواء كان اسمها قوة عربية مشتركة، أو أي شيء آخر، ينبغي التفكير فيها «من خارج الصندوق»، كما يقال، وبالأخص من خارج البيروقراطية. فمحاربة الإرهاب تتطلب أمرين عاجلين: 1) إعادة الاعتبار لـ «الدولة» لأنه استقوى وتوحّش في ظل تفككها أو غرقها في الفئوية والطائفية وتديين السياسة، و 2) تنسيق استخباري وأمني تدعمه قوات تدخل محترفة يمكن إنشاؤها في مدى زمني قصير ومن دون عقبات أو «فيتوات» خارجية. ذاك أن معاهدة الدفاع المشترك وأي قوة منبثقة منها كانتا أصبحتا منسيتين، لأن هناك مَن ساهم في طيّهما، بل اندثرتا مع إنهاء حال الحرب مع إسرائيل التي لم تنهِ الحرب من جانبها، وبعد توقيع «معاهدات السلام» معها، علماً بأنها أفسدت «السلام» ولم تعترف به.
لذلك يُطرح السؤال الفجّ والممضّ: هل يمكن – بعد كل الذي جرى – إنشاء قوة عربية مشتركة من دون موافقة الولايات المتحدة (وإسرائيل)، وقريباً ربما تصبح مطلوبةً أيضاً موافقة إيران إذا بقي تقاربها مع أميركا على منواله الراهن. فأميركا لم تتخلَّ عن هدف احتواء العالم العربي، وتحرص على إبقاء الجيوش العربية بمستوى أدنى من إنشاء وضع استراتيجي عربي. حتى أن الجيش العراقي الجديد، وهو الوحيد الذي أشرفت على تأسيسه من الصفر، لم يستطع أن يصمد أمام مجموعات الإرهاب. بل إنها تتقبّل وجود ميليشيات عراقية – إيرانية أو إيرانية – لبنانية أقوى من الجيشين العراقي واللبناني، لأنها تخدم هدفها المتوخّى، وهو ألا تكون هناك جيوش عربية قوية. ورغم انزعاجها من «حزب الله» إلا أنها لا تمانع استقواءه على إسرائيل طالما أنه يقاتل في فسحة الخواء الاستراتيجي العربي ليمنح إيران ورقة إقليمية لن تتمكن من الذهاب بها بعيداً.