كل من تحدّث عن تقدم جدي في النقاش المتعلق بقانون الانتخاب إما مشتبه أو يتعمد بث التفاؤل الذي يشبه حقنة المورفين. بعد 5 جلسات للجان المشتركة، بدأ البحث في مضمون القانون المختلط، وهذا عملياً تأخير لا تقدم. فمعظم النواب كانوا يدعون في كل جلسة إلى التوقف عن تضييع الوقت بنقاش عام، طال أولاً القوانين الـ17 المطروحة على جدول الأعمال ثم كيفية تخطي النظام الداخلي لمجلس النواب للوصول إلى الاكتفاء بنقاش القانون المختلط. وهو مسار كان يمكن اختصاره بجلسة واحدة ربما، ما دام الجميع يدرك أنه سيصل إلى المكان نفسه.
فرح النواب ببدء النقاش في القانون المختلط، وتناسوا أن العقدة ليست في النقاش، بل في كيفية حسمه. فمن شارك في اجتماعات اللجنة الفرعية التي استمرت لأشهر طويلة سبق له أن غرق في نقاش تفاصيل التفاصيل، حتى خرج الجميع خبيراً بالنظم الانتخابية، لكن ذلك لم يكن كافياً للوصول إلى أي توافق. ببساطة لأن القرار السياسي لم يتخذ. وببساطة لأن أحداً لم يشعر أنه مضطر للتنازل وهو يدرك أن التنازل سيكون مجانياً، ولن يؤدي إلى تذليل أي عقبة من أمام قانون الانتخاب.
الأمر نفسه تماماً، يتكرر في اللجان المشتركة. خرج نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري ليؤكد أنه شعر في الجلسة أنه «كان هناك جدية إلى أبعد حدود». ذلك قد يكون دقيقاً بالمقارنة مع الجلسات التي سبقت، والتي لم تدخل في مناقشة بنود الاقتراحين المختلطين (ما يزال النائب سامي الجميل يصر على طرح اقتراح الدائرة الفردية). لكن الأكيد أن هذه الجدية ستكون أمام الاختبار في الجلسات المقبلة، خاصة أن أحداً لم يلحظ أي تغيير ملموس في المقاربات السياسية للموضوع. فالحوار الثنائي، على سبيل المثال، وإن تطرق إلى مسألة الانتخابات النيابية، إلا أن ذلك جرى في سياق ضرورة استخلاص العبر من نتائج الانتخابات البلدية، وعطفاً عليها ضرورة الاستعداد للانتخابات النيابية. فيما ذهب الرئيس نبيه بري في سعيه إلى تحريك المياه الراكدة، إلى دعوة اللجان إلى مناقشة مشروع الحكومة المبني على النسبية الكاملة على أساس 13 دائرة.
فتح النواب ملفاتهم، ولا سيما منهم أعضاء لجنة التواصل الانتخابي، التي أهدرت 4 سنوات في نقاشات لم تُترجم توافقاً.
حضر جدول المقارنة بين اقتراحي الرئيس بري من جهة و «المستقبل» و «القوات» و «الاشتراكي» من جهة أخرى. وهو جدول يشكّل استعادة حرفية للجدول الذي نوقش في لجنة التواصل في 27 تشرين الثاني 2014، يوم تبين وجود تطابق في 16 دائرة بين القانونين، واختلاف في عشر دوائر إضافة إلى اختلاف واحد في ترسيم محافظة جبل لبنان (يعتبر النائب آلان عون أن الاختلافات عددها 20، لأن اختلافات عديدة تبرز داخل بعض الدوائر). وهذا الجدول تم التوصل إليه حينها بعد اتفاق اللجنة على آلية عمل تدعو إلى البدء بمناقشة كل دائرة على حدة، بحيث يتفق على حدودها وتقسيمها وتوزيع المقاعد فيها بين النظامين الأكثري والنسبي، بما يؤدي في النهاية إلى تحديد كل الدوائر النسبية والأكثرية وتوزيع مقاعدها، وفق النظام المختلط.
حينها فشلت الآلية في الوصول إلى الهدف. ويبدو أنها ستصل إلى النتيجة نفسها اليوم.. وللسبب نفسه: لا وسيلة لحسم الاختلافات بالنقاش التقني بل بالاتفاق السياسي المؤجل.
وبناءً عليه، استحضرت الجدية بنقاش حالتين خلافيتين:
الحالة الأولى تتعلق بتقسيم جبل لبنان، حيث ينص «مشروع الثلاثي» على فصل الشوف وعاليه في دائرة مستقلة «احتراماً للخصوصية الدرزية». وهذا التقسيم مرفوض تماماً من النائب طلال ارسلان، الذي يشكل جزءاً من هذه الخصوصية، ويصر على ضم بعبدا إليهما (اقتراح بري). وفيما يكرر النائب مروان حمادة تحذيره من استهداف طائفة مؤسسة للبنان، ثمة من أشار إلى أن هذه النقطة لن يكون صعباً الاتفاق عليها عندما يحين وقت الحقيقة.
أما الحالة الثانية، فكانت تلك المتعلقة بالدوائر التي تضم نائبين، أي صيدا وبشري والبترون. وقد اعتمد اقتراح بري على مبدأ تضمّن كل دائرة النظامين الأكثري والنسبي كمعيار ثابت. أما «الثلاثي»، فعرض مبرراته لاعتماد النظام الأكثري لانتخاب النائبين معاً، موضحاً أن الغاية كانت إعطاء المكوّنات المسيحية في بشري والبترون والمكوّن السني في صيدا فرصته لإيصال المرشحين الذين يمثلونه في الدوائر الصافية طائفياً تقريباً، والتركيز على كيفية إيصال المرشح المسيحي في طرابلس وعكار، على سبيل المثال، حيث يذهب الصوت التفضيلي لهذا المرشح، بدل تضييعه بالسعي لإنجاح المرشح المسيحي الثاني في البترون وبشري، والذي يمكن أن يصل بقوة المسلمين في حال اعتماد النسبية.
الأمر نفسه يحصل في دائرة صيدا، حيث يشكل اختيار نائبيها هاجساً للمكوّن السني، لأن أي نسبية تعتمد ستعني وصول أحد نائبي صيدا بقوة الصوت الشيعي، فيما الأكثرية تسمح للمكوّن السنّي بالاسترخاء في الدائرة ذات الأغلبية السنية، وبالتالي صبّ أصواته التفضيلية خلف المرشح السني في الجنوب.
وعليه، أشار النائب أحمد فتفت إلى أن هذا التقسيم يلتزم بالغاية من تغيير القانون، أي مراعاة صحة التمثيل، موضحاً أن المسألة ليست تقنية بحتة.
وكان لافتاً أن هذا التبرير السياسي وجد من يؤيده من النواب المسيحيين، ولا سيما منهم «التيار الوطني الحر»، إلا أنهم آثروا عدم التعليق، لأن المطلوب أن يتفق مقدّمو الاقتراحين بداية، على أن يعطي «التيار» رأيه بعد ذلك.
المشكلة الأساس التي أطلّت برأسها أمس أن لا آلية لإنهاء النقاش في أي نقطة تثار، في ظل رفض مكاري اعتماد التصويت. فانتظار التوافق يعني أن الإنجاز الأكبر لن يزيد عن تحويل النقاط الخلافية إلى الهيئة العامة، التي سيكون عليها أن تقرر من جديد.. وهي الكأس التي لطالما رفض بري تجرّعها.
كل شيء يشير إلى قانون الستين. ما يزال هذا القانون الأقوى. ولذلك تحديداً ارتفع الصوت في المجلس النيابي محذراً من الاستمرار في المماطلة، ودعا النائب آلان عون الناس إلى الضغط على النواب من الشارع لحثهم على إنجاز القانون المنتظر.
ورأى النائب جورج عدوان أن إجراء الانتخابات النيابية على أساس قانون الستين هو «تمديد مبطن لأزمة صحة التمثيل»، فيما أشار النائب علي فياض الى «أن السيناريو الأفضل هو الوصول إلى قانون انتخابي جديد والسيناريو الأسوأ هو العودة إلى قانون الستين».
الإشارة الأبرز كانت في اعتبار التمديد خياراً ميتاً. وربما يكون هذا هو الإنجاز الوحيد الذي يمكن للمجلس النيابي ومن خلفه كل الأفرقاء أن يعدوا اللبنانيين فيه.. والذي يسعى البعض ليكون ثمنه «الستين» حتماً.