IMLebanon

المشترك المنسيّ.. عن «عروبة» خسرناها

 

رغم أنّ ما انتشرَ على أنّه «الربيع العربي» قد اقتصرت «عروبته» أساساً على عدوى الانتفاض الشعبي من بلد عربيّ إلى آخر، وعلى تصوّر هلاميّ بعض الشيء عن تشابه في النموذج بين الأنظمة، سواء في البلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية أو تلك التي لم تشهد، فإنّه، وبنتيجة انقشاع الأوهام حول الانتقال من الديكتاتورية الى الديموقراطية، ومع اتضاح الفارق الكبير بين التحول في اتجاه الديموقراطية في أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وبين سياق «الربيع العربي» وما أعقبه، فقد تراجعت «عربيّة المدى» لصالح نزعة انطوائية متنامية، بحيث ينهمك كل مجتمع بنفسه، بل ينهمك بتهافت الرابطة الوطنية فيه، أو بوجود صراع انقساميّ حاد على إعادة انتاجها.

وهكذا، صار نضال كل من التوانسة والمصريين والليبيين واليمنيين والسوريين ينحي عن نفسه أي مشترك عربي كبير جامع بين هذه النضالات، إلا من باب العموميات المجرّدة حول مقارعة الاستبداد. 

فبخلاف موجات إسقاط الشيوعية في أوروبا الشرقية التي ارتبطت بيقظة القوميات الكيانية منها والإثنية من ناحية، وبتوسع نطاق تبني الهوية الأوروبية الفضفاضة من ناحية ثانية، وبخلاف تهلهل الأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية الذي لم ينفصل عن تصوّر تضامني بين شعوب القارة، فإنّ أنماط الخطاب والدعاية تعاملت عموماً مع «عربية» هذا الربيع على أنّها تقتصر على توصيف متشابه للاستبداد العربي، وعدوى انتفاضية متنقلة من بلد الى آخر، وشيء من التوظيف التعاطفي لما هو حادث في بلدان عربية أخرى على هامش الصراع المحتدم في البلد العربي المعنيّ.

والحال أنّ أكبر خطأ يُرتكب هو قياس أحداث تونس بأحداث سوريا أو العكس، هذا على سبيل المثال. يمكن لطرف سياسي تونسي أن يكون موقفه الأصح في بلاده، ويكون موقفه مما يجري في سوريا الأبعد عن المصالح التحرّرية للشعب السوريّ. يمكن ذلك، وإن كانت له تداعياته أيضاً.

من هنا، أخطر ما يُرتكب هو القياس التوظيفي لقضايا هذا المجتمع العربي بمعايير ذاك. لكن من الخطأ أيضاً التعامل مع كل هذه المآلات الإقليمية كما لو أنّ «العروبة» هي من مورثات الاستبداد العربي و»تخدير الشعوب» ليس إلا. 

فهل كان «الربيع العربي» هو ربيع التحرّر من العروبة بعامّة، أو العروبة الاستبدادية على وجه التحديد؟ ولصالح ماذا؟ أمّتان مشرقيتان جديدتان، واحدة «شيعية عربية» والثانية «عربية سنية»؟ قومية تونسية ومصرية؟

لما كانت النخب الثقافية في المستعمرات وأشباه المستعمرات تحبّذ في العادة قول «إن شاء الله دايمة» في المآتم، فإنّها تعاملت مع تصاعد الروحية الشوفينية في كل شعب عربي بإزاء شعب عربيّ آخر على أنّها من بشائر قيام «الدولة الأمّة». و»الدولة الأمّة» هذه، أخذ بعض المثقفين يبشّرون بوجوبها من ناحية، فيما راحوا يذمّون الفكرة القوميّة من ناحية أخرى، في تناقض من النوع البليد جدّاً. صحيح أنّ الغلو القوميّ يجنح الى تجاوز فكرة الدولة الوطنية، ويتطلع الى امبراطوريّات تقتضي حذف أو تذويب شعوب برمّتها، إلا أنّ الفكرة القوميّة بحدّ ذاتها لا غنى عنها لتشكيل أي «دولة أمّة». بل إنّ الفكرة القوميّة هي هي الفكرة الديموقراطية من حيث توسّع حدود الدولة، من «دولة الصفوة» إلى «دولة الأمّة». 

لقد لعب لفظ «الحرّية» المجرّد دوراً كبيراً في تشويه هذا الربيع على صعد ثلاثة. جرّد حراك الناس عن أحوالها ومصالحها وأرزاقها، عن الضواحي والطبقات الشعبية والأرياف. تعالى فوق المسائل التي تخصّ فئات بعينها، فلقضايا النساء خصوصيّاتها أيضاً، ولا تُنصف قضية المرأة بالاعتراف بها من حيث هي «مواطن مجرّد» ليس أكثر، وكذلك بالنسبة الى الخصوصيات الإثنية والمناطقية واللغوية والدينية. وثالثاً، لعب الموقف السلبي من موضوع المشترك القومي بين الشعوب العربية دوراً سلبياً للغاية. لأنّه عندما تنحي المشترك القومي العربي فإن عنصراً حيوياً سيُحذف من الهوية الكيانية التراكمية لهذا المجتمع أو ذاك، بما يؤدّي الى انطوائه على نفسه، هذا صحيح، لكن تهافته وتضعضعه وتشظّيه في الوقت نفسه.