قبل 12 يوماً من لقاء باريس وطرح المبادرة الرئاسية «الجدّية»، وصل القائم بالاعمال الأميركي السفير ريتشارد جونز الى لبنان. الأخير سيتواجد في لبنان في مرحلة انتقالية، يرى مراقبون أنها قد لا تتخطّى مدّة الستة اشهر، تسبق تسلّم السفيرة الاميركية الجديدة اليزابيت ريتشارد مهامها التي كانت قد عُيّنت في هذا المنصب في حزيران الماضي.
وفيما يُتوقّع أن تنتهي الترتيبات الإدارية لانتقال اليزابيت ريتشارد الى بيروت مطلع العام الجديد بعد إتمام جلسة الاستماع والشهادة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي تمهيدا لمناقشة قرار التعيين والتصديق عليه (في ظل معلومات عن تقصّد مجلس الشيوخ تأجيل لائحة طويلة من تعيين سفراء اميركيين في عواصم العالم مستثنيا دايفيد هيل لتسهيل ممارسة مهامه الديبلوماسية الجديدة في باكستان)، يفترض المتابعون في بيروت ان يتزامن هذا الانتقال مع إنجاز الاستحقاق الرئاسي ما سيسمح للسفيرة «بالاصالة» أن تقدّم أوراق اعتمادها أمام الرئيس الجديد المنتخب، كما حال عدد كبير من السفراء المعتمدين في لبنان.
لكن «الوكيل» ضمن المرحلة الانتقالية، يذهب، برأي البعض، أبعد من الحدود المتوقعة لمهام قائم بالاعمال. كان لافتا وسط الأزمة السياسية غير المسبوقة ان تقتدي واشنطن بالتجربة اللبنانية في «التمديد»، فتستدعي من «الاحتياط» سفيراً أحيل الى التقاعد يخلف السفير دايفيد هيل، وربما قد يكون شاهدا على انتخابات رئاسية بعد شغور طويل.
في كل لقاءات التعارف مع المسؤولين السياسيين الذين التقاهم ريتشارد جونز، إضافة الى الزيارة البروتوكولية الى البطريرك الماروني، لازمة واحدة كانت تتكرّر على لسان الديبلوماسي الاميركي: حان الوقت لاجراء الانتخابات الرئاسية.. الآن هو الوقت المناسب للاختيار!
بالطبع وجد كثيرون في هذه اللازمة الاميركية ما يدحض الاستنتاجات بأن الادارة الاميركية غير راضية عن تسويق منتج فرنجية ـ الحريري الرئاسي، وما لم يظهر في التصريحات العلنية لجونز قيل في الغرف المغلقة لناحية حثّ السفير الاميركي رأس الكنيسة المارونية على جمع الاقطاب الموارنة مجددا من أجل حسم الملف الرئاسي.
وتحت هذه اللازمة اذهل جونز متابعيه بجملة مواقف تراوحت بين حدّ التبني لمعادلات رئاسية وإملاء الخيارات. يؤكّد أنه يجب ان يكون هناك رئيس يعمل مع الحكومة، ويصف معادلة فرنجية ـ الحريري بـ «المنطقية»، وإلا على اللبنانيين ان يتفقوا على بديل آخر في أقرب وقت ممكن. يرى أنه يجب التوصّل الى اتفاق واسع النطاق وليس ضروريا ان يشمل كل الأطراف بل الكافي منها ليكتسب الشرعية. يغوص في تفاصيل قانون الانتخاب مستطلعاً مواقف الأطراف السياسية من دوائره وتقسيماته وتوازناته. ويخصّ «حزب الكتائب» من دون غيره من الاحزاب السياسية بلفتة ثناء على أساس ان موقفه من الاستحقاق الرئاسي «مسؤول، يقارب الامور بتأن وبروحية تهدف الى جمع اللبنانيين…».
عملياً، نقطتان محوريتان يسعى الديبلوماسي الأميركي الى تظهيرهما من ضمن جدول أعماله في المرحلة الانتقالية: اعتقاد واشنطن ان على اللبنانيين ان يلتقطوا الآن هذه الفرصة الرئاسية. والنقطة الثانية التأكيد على الالتزام الاميركي بتأمين مستلزمات حماية أمن لبنان عبر استمرار تدفق المساعدات بكل مستوياتها، خصوصا المساعدات العسكرية للجيش اللبناني من ضمن مهامه لمكافحة الارهاب.
السفير الأميركي السابق في لبنان بين العامين 1996 و1998 في مرحلة الوصاية السورية، وسفير الولايات المتحدة السابق في اسرائيل بين العامين 2005 و2008، خَلَف السفير دايفيد هيل بعد تمديد الأخير إقامته على الاراضي اللبنانية أكثر من مرة، حيث اضطر الى مواكبة الحراك المدني في الشارع عن كثب وأزمة الرئاسة الى لحظة «اتهامه» بأنه أحد الطهاة الرئاسيين لطبخة فرنجية ـ الحريري. حضّر المكوّنات اللازمة لوصفة إنهاء الشغور ثم ترك لرئيس البعثة الديبلوماسية المؤقت ريتشارد جونز مهمّة التسويق لها!
لكن العارفين في زواريب الآداء الديبلوماسي الاميركي، يقيسون الأمور من زاوية مختلفة. صحيح ان جونز قد ذهب أبعد من سلفه دايفيد هيل في اسلوب التعبير باتجاه الدفع لإنجاز الاستحقاق، إلا أنه لم يحد عن الخط المرسوم والمتعارف عليه.
الاهتمام الاميركي بالملف اللبناني من ضمن دائرة الشرق الاوسط، وفق تأكيدات الخبراء في سياسات واشنطن في مناطق النزاعات، يصل في أحسن أحواله الى أحد الموظفين الكبار في الخارجية الاميركية. لذلك، ومنذ بدء الازمة في سوريا اعطي السفير الاميركي السابق دايفيد هيل منذ العام 2013، وقبله السفيرة مورا كونيللي، واليوم ريتشارد جونز، حيّزا من الحركة والاجتهاد طالما ان الملف اللبناني ليس ضمن الأولويات الاميركية الملحّة والطارئة.
عند مغادرة هيل لبنان نهائياً كانت معادلة فرنجية ـ الحريري لا تزال أسيرة الغرف المغلقة، ولقاء باريس لم ينضج توقيته بعد. تفيد المعلومات بأن الفريق اللصيق بالرئيس الحريري هو الذي بادر الى طرح الفكرة على هيل فكان جوابه التلقائي «لا مانع لدينا. المهم انتخبوا رئيساً».
يجزم من عرف هيل عن كثب بأنه لو سأل يومها فريق الحريري السفير الاميركي «بأننا نفكر بميشال عون رئيسا» لأجاب «لا مانع لدينا». وخلال وجوده في لبنان سألت إحدى الشخصيات المعروفة بقربها من الدوائر الاميركية هيل «ما رأيكم بجان عبيد؟». أجاب السفير المحنّك «نحن نوافق إذا كان هذا خيار اللبنانيين».
الخلاصة واضحة: الاميركيون يؤيّدون وصول اي ماروني متوافق عليه الى رئاسة الجمهورية. المهم إحداث خرق في جدار الأزمة الرئاسية يؤدي الى كسر حالة الشلل على مستوى الحكومة والمؤسسات الدستورية.
ومن هذا المنطلق تحديدا يواكب السفير جونز تطوّرات الملف الرئاسي، ليس تبنّيا لاسم سليمان فرنجية تحديدا إنما ضغطا باتجاه إتمام الاستحقاق بعد أن تخطّى الشغور الحدّ المسموح، وفي وقت يلاقي فيه هذا الترشيح الحد الادنى من التوافق الخارجي والداخلي عليه بمعزل عن صراع المحاور الذي لا يزال قائما في المنطقة، خصوصا على الجبهة السعودية ـ الايرانية. يقول مطّلعون «لم يكن بالامكان رصد زيارات مكوكية للسفير الجديد مضمونها الاساس الانتخابات الرئاسية لو لم يكن هناك اقتراح جدّي وتوافقي يتمّ تداوله على الساحة اللبنانية».
وفيما لا تحضر عبارة التوافق المسيحي على لسان الديبلوماسي الأميركي، فإن للروس مقاربة مغايرة. في اللقاء الذي جمع السفير الروسي ألكسندر زاسبيكن مع العماد ميشال عون في الرابية يوم الخميس، شدّد الأول على ثابتة في التعاطي الروسي مع الملف الرئاسي «نحن لا نقبل أن يأتي أي رئيس من أي جهة لا يكون المسيحيون هم أرباب المبادرة في اقتراحه. نحن لا نقبل أن يأتي الاقتراح من الخارج، أكان من السعودية أو روسيا او اي بلد آخر، ثم يفرض الاقتراح الرئاسي على الداخل…».