يتساءل اللبنانيون، بكثير من الخوف والقلق، عن المصير الغامض الذي يواجهه الوطن الصغير، وسط المتغيرات التي تعصف بمستقبل دول المنطقة.
ومثلهم يتساءل أيضاً الأردنيون الذين رمتهم الأحداث في عين العاصفة منذ صدامات «أيلول الأسود». أي منذ باشر الأمين العام لـ «الجبهة الشعبية» الدكتور جورج حبش عمليات التحدي لسلطة الملك حسين. وكان ذلك في 6 أيلول (سبتمبر) 1970 يوم اختطف أنصاره أربع طائرات مدنية واحتجزوا مئات الرهائن. وقد توقع حبش في حينه إسقاط النظام الأردني والاستيلاء على الحكم.
والثابت أن الملك الراحل كان ينتظر تلك المواجهة، بدليل أنه شكل حكومة عسكرية برئاسة وصفي التل استهدفت كل المنظمات الفلسطينية بما فيها «فتح» وجماعة ياسر عرفات.
ولما استخدم الجيش الأردني السلاح الثقيل ضد تلك المنظمات، طلب الفدائيون الدعم العسكري من سورية. وأحدث ذلك المطلب خلافاً صامتاً بين حافظ الأسد ومنافسه على القيادة صلاح جديد، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على ساحة المعركة المحتدمة في الأردن.
وعلى رغم ذلك الخلاف المستحكِم بين أقوى شخصيتَيْن عسكريتين علويتين في دمشق، فقد قرر حافظ الأسد السيطرة على مدينة إربد في شمال الأردن. وكان الهدف من وراء تلك الخطوة إقامة منطقة آمنة يلجأ اليها الفدائيون لعلها تساعدهم على التفاوض مع الملك حسين. وفي الوقت ذاته، أمر بإرسال رتل من الدبابات لمحاصرة الأردن، ومنع حكومة وصفي التل من استكمال خطة المطاردة التي دفعت عدداً من الفدائيين للهرب الى اسرائيل.
في العشرين من أيلول، اتصل العاهل الأردني بإدارة الرئيس ريتشارد نيكسون طالباً منها المساعدة. وكان طلبه بصورة استغاثة لأن موسكو حاولت استخدام حليفتها سورية لإسقاط النظام الاردني. واستغل هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي في إدارة نيكسون، التدخل السوفياتي ليطلب من اسرائيل التدخل بطيرانها الحربي، ومنع تقدم الدبابات السورية باتجاه الأردن.
وبعد اشتباكات عنيفة دامت يومين، فقدت خلالها دمشق عدداً كبيراً من الدبابات، أمر حافظ الأسد قواته بالانسحاب. خصوصاً بعدما رفض تنفيذ اقتراح صلاح جديد بضرورة إرسال مساندة جوية، رداً على هجمات الطيران الأردني والاسرائيلي.
واستغل صلاح جديد عصيان وزير الدفاع (حافظ الأسد)، ليقابله بالدعوة الى مؤتمر طارئ للقيادة القومية، بغرض محاسبته. وجاء رد الأسد مفاجئاً بحيث إنه قابل تلك الدعوة بإعلان الحركة التصحيحية (16 تشرين الثاني /نوفمبر 1970)، فأمر باعتقال صلاح جديد وجميع أعضاء القيادة البعثية آنذاك. وبقي جديد في سجن المزّة مدة 23 سنة، الى أن توفي في 19 آب (اغسطس) 1993.
بعد انقضاء أكثر من سبع سنوات على فرار منظمة التحرير الى لبنان، عقد آرييل شارون مؤتمراً صحافياً أعلن فيه شعار المرحلة المقبلة بأن «الأردن هو فلسطين». وهاجم في ذلك المؤتمر غولدا مائير، واتهمها بارتكاب خطأ تاريخي كونها انحازت الى الملك حسين أثناء نزاعه مع ياسر عرفات، لاعتقادها بأن «الخيار الأردني سيجنّب اسرائيل الحاجة الى مواجهة القضية الفلسطينية».
وتحاشياً لتكرار ذلك الخطأ، اقترح شارون اعتماد سياسة مناقضة لسياسة مائير حيال عمّان. أي الامتناع عن مساعدة الأردن ضد مهددي النظام في حال تعرّض لأزمة وجود. وقال، في معرض الدفاع عن موقفه، إن استيلاء الفلسطينيين على الحكم في الأردن عام 1970، كان يمكن أن يوفر على اسرائيل ممانعتها الخفية لقيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة.
والثابت في هذا السياق، أن رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو تبنى خيار شارون، وقرر توسيع عملية الاستيطان في القدس المحتلة، على رغم اعتراض إدارة اوباما.
وترى مصادر عربية في واشنطن أن التلاسن بين جماعة اوباما وجماعة نتانياهو ليس أكثر من مسرحية متَّفق عليها بغرض تحرير الرئيس الاميركي من التبعات المترتبة عليه تجاه السلطة الفلسطينية.
ويتوقع الرئيس محمود عباس استمرار التمثيلية المفتَعلة طوال مدة السنتين المتبقيتَين من حكم اوباما، الأمر الذي يوفر لإسرائيل الوقت الكافي لابتلاع القدس الشرقية وزيادة حجم التوسع الاستيطاني.
وقد نبّه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني الى أخطار التصعيد الاسرائيلي، وحذر من انعكاساته السلبية على اتفاق وادي عربة للسلام بين الأردن واسرائيل.
ويتردد في عمّان أن اسرائيل قد تستغل التظاهرات والاضرابات التي يدعو اليها زعماء التيارات السلفية الجهادية في عمّان والمدن الأخرى، لزيادة حملات التحريض. لهذه الأسباب وسواها، أبلغ العاهل الأردني كتلة التجمع الديموقراطي أن بلاده لن تدخل على خطوط الاشتباك البري مع قوات تنظيم «الدولة الاسلامية». وكان ذلك التبليغ بمثابة إعلان موقف سياسي واضح بأن الأردن لن يعطي اسرائيل الذريعة المطلوبة لاستغلال الخلافات الداخلية من أجل تسويق مشروع شارون الذي تبناه نتانياهو: «الأردن هو فلسطين».
بالعودة الى مخاوف اللبنانيين وقلقهم من أن تكون أحداث عرسال وطرابلس مقدمة لإعلان انفصال المتمردين، فإن الجيش اللبناني حسم هذا الموضوع، وألغى فكرة إقامة إمارات متطرفة. ويرى أهل طرابلس أن مدينتهم ألفت هذه الأساليب المتطرفة خلال الحرب الأهلية. وقد برز في حينه الشيخ سعيد شعبان الذي أعلن إمارته بدعم من ايران. ثم ظهر في الفترة ذاتها أمير الميناء هاشم منقارة، وأمير باب التبانة أبو عربي.
وفي عام 1986 قرر الجيش السوري وضع حد لهذه الظواهر السياسية النافرة التي روَّعت عاصمة الشمال بأعمالها الاستفزازية. تماماً مثلما فعل الجيش اللبناني الأسبوع الماضي.
وتبيّن من التحقيق مع المتهم أحمد ميقاتي أن كل المتمردين كانوا يحاولون تقليد «داعش». والمَثل على ذلك أن ميقاتي كان يسعى الى احتلال قرى مصايف آل كرامي، أي عاصون وسير الضنيّة وبقاعصفرين، تمهيداً لاعلانها ملاذاً آمناً للمسلحين. كما تبيّن أيضاً أن شادي المولوي وأسامة منصور كانا على علم مسبق بخطة ميقاتي، ودعوته الى ربط القلمون السورية بالساحل اللبناني. وذكر في التحقيق أن هذه الخطة مستوحاة من قيادة «داعش» التي تريد استكمال السيطرة على سورية، والقطاع اللبناني الملاصق لحدودها بدءاً من عرسال حتى طرابلس.
بعض المنظرين اللبنانيين يعتمد في قراءة مستقبل الوطن الصغير على اللاءات التي حملها السفير الاميركي دين براون الى الرئيس حافظ الأسد. وأهم ما جاء في تلك اللاءات الثلاث المحافظة على النظام اللبناني كثمن للقبول بدخول القوات السورية عام 1976. ومثلما اشترطت اسرائيل في ذلك الحين منع إقامة كوبا عربية في جنوب لبنان… يمكن أيضاً أن تكرر الشرط ذاته مع «حزب الله». مع فارق أساسي هو أن «حزب الله» ليس جسماً غريباً مثل منظمة التحرير، وأن موقفه المعادي لإسرائيل ينطلق من قرار جماعي تضمنته وثيقة الطائف. لهذه الأسباب وسواها يبقى قرار المحافظة على سلامة النظام اللبناني رهناً بمشيئة اللبنانيين وحدهم.
ومن أجل إعادة تثبيت هذا الموقف، قامت فعاليات من منطقتي البقاع وبعلبك بصوغ «وثيقة شرف» تدعو الى نبذ العصبيات والعنف… وتحذر من عدو جديد تكفيري ووحشي لا يتردد في ذبح الناس وتدمير تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم.
ويبدو أن هذه المسكنات لم تقنع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، الذي أكد للمسؤولين في بيروت أن الاستقرار اللبناني هو أولوية بالنسبة الى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. وهذا ما كرره مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، تيري رود لارسن، الذي وصف عملية نزع سلاح «حزب الله» بأنها أصبحت أكثر تعقيداً بسبب وجود «داعش» وجبهة النصرة. وقال إن وجود هذه المنظمات قد يدفع المواطنين الى حرب أهلية أخرى، الأمر الذي يشجع على دعم دور الجيش كونه يمثل قوة الاستقرار الحيادية الوحيدة في لبنان.
وترى مصادر سياسية أن هذا الاستقرار يعتمد في بعض جوانبه على تطور العلاقات الايرانية – الاميركية، بحيث يؤثر ذلك في موقف «حزب الله» ومدى تعاونه مع الدولة. خصوصاً أن زعماء 14 آذار ينتقدون سياسة الحزب، لأنه، في نظرهم، يمثل الجمهورية الايرانية لا الجمهورية اللبنانية، وأن اداءه السياسي والعسكري كثيراً ما يُحرِج الحكومة التي يشترك فيها. وهم يطرحون موضوع مساندته العسكرية للنظام السوري، حليف ايران لا حليف لبنان. وبسبب ذلك التحالف نشبت معارك في لبنان بتأثير الحرب الأهلية في سورية.
مصادر مؤثرة في «حزب الله» تتوقع خروج بشار الأسد من أزمته الداخلية والخارجية. وهي ترى أنه يسيطر على ما نسبته 25 في المئة من مساحة الدولة الأصلية. أي على دولة العلويين ومدن الساحل والممر الاستراتيجي الذي يربط دمشق باللاذقية. ولكن هذا التصور لا يعفي مسؤولية الأسد عن مقتل 180 ألف نسمة، بينهم شريحة كبيرة من الجيش النظامي. كما لا يعفيه من تشريد خمسة ملايين مواطن، موزعين بين تركيا والأردن ولبنان والعراق وكردستان وبعض العواصم الاوروبية.
ويعتبر الوزير رشيد درباس أن حصة لبنان من النازحين تشكل عبئاً مالياً واجتماعياً وتربوياً وإنسانياً يصعب تحمله من دون مساندة خارجية، عربية أكانت أم أجنبية. ولقد فوجئ أثناء زيارته لمخيم الزعتري في الأردن بأن سجلات النازحين السوريين تضم معلومات واسعة عن كل فرد، وأن تحركاتهم تخضع لمراقبة متواصلة.
يروي الشاعر سعيد عقل – أطال الله في عمره – حكاية صديقه الراحل ايليا أبو جودة، يوم دخل المستشفى في سويسرا لإجراء عملية في عينه. ولما حدد له الطبيب المختص موعد العملية بعد أسبوعين، قرر البقاء في الفندق في جنيف. ولكنه فوجئ بزيارة موظف الأمن الداخلي الذي أبلغه بضرورة مغادرة البلاد، لأن وجوده أصبح غير قانوني… ولأن هذا الوجود يخضع لـ «كوتا» المغتربين التي لا يجوز أن تزيد على واحد ونصف في المئة.
ومنعاً للإزعاج، طلب أبو جودة من فرع البنك الذي يخصه في جنيف دفع ضمانة تتعدى الأربعة ملايين دولار. وكان جواب الموظف حاسماً، بأن ضبط ميزان الدخول الى سويسرا لا يخضع للصفقات المالية… بل لقواعد النظام المحلي!