وسط بركان مشتعل يُهدّد بحرق الشرق الأوسط بمعالمه وحضارته وإبادة شعوب متجذّرة فيه منذ بدايات التاريخ، يُحاول الأردن حماية أرضه وشعبه من إرهاب «داعش» والحفاظ على استقرارٍ يحسده عليه كثيرون.
أجواء الاطمئنان التي يحاول المسؤولون الأردنيون إشاعتها بهدف جذب السيّاح تصطدم بعقباتٍ كثيرة، أوّلها موقع الأردن المتقدّم في الحرب على الإرهاب ومشارَكته في التحالف الدولي ضدّ «داعش»، إضافة إلى انضمامه إلى التحالف العربي – الإقليمي لضرب الحوثيين في اليمن تحت عنوان «عاصفة الحزم»، في وقتٍ لا يزال صدى تفجيرات عمّان عامَ 2005 يتردّد في الشارع الأردني.
من هنا جاءت مبادرةُ هيئة تنشيط السياحة الأدرنية بدعوة صحافيين ومدوّنين وناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي لزيارة الأردن، في محاولة منها لكسرِ حلقة الخوف والتردّد ونقلِ الصورة الحقيقية عن المملكة الى الخارج.
مهمّةٌ نجحت الهيئة في إنجازها على أكمل وجه، فعلى امتداد ستة أيام، زار وفدٌ لبناني – فلسطيني أهمَّ المعالم الأثرية والتاريخية والسياحية في الأردن.
العاصمةُ عمان تختزن تاريخاً عريقاً وثروة من المواقع الأثرية. وبين المتاحف والأسواق الشعبية والمتاجر العصرية ومعارض الفنون، يحتار السائح من أين يبدأ جولته، حيث يُلاقيك الشعبُ الأردني بابتسامةٍ دافئة قبل أن تشعّ عيونه لهفة وفرحاً عندما يعلم أنك لبناني.
جرش
مَن يزور مدينة جرش للمرّة الأولى، لا يستغرب أنها مِن أفضل المدن الرومانية المحفوظة في العالم. وقد يكون السببُ أنّها بقيت مطمورة في الرمال قروناً عدة قبل التنقيب عنها وإعادة إحيائها خلال الأعوام السبعين الماضية.
وأنتَ تجول في جرش تلاحظ أنّ أجزاءَ كبيرة من المدينة لا تزال قائمة، مُبرِزة مثالاً رائعاً عن التطوّر المدني عند الرومان، فتعكس شوارعُها المرصوفة، ومعابدُها المرتفعة ومسارحُها الأنيقة وأسوارُها، صورة واضحة عن نمط المدينة الرومانية التقليدية. علماً أنّ جرش تُعَدّ من أهم الأماكن التي تستقطب السيّاحَ العرب والأجانب وتستضيف سنوياً فاعلياتٍ ثقافية وغنائية لا تُفوَّت.
«مدينة الفسيفساء»
تُعتبر مادبا أحد أبرز الأماكن على الأرض المقدّسة، لكنّ أبرز معالمها تبقى الخريطة الفسيفسائية التي تتوسّط كنيسة القديس جورج الأرثوذكسية الإغريقية. فتلك الخريطة المشغولة بالفسيفساء الملوَّنة تُعَدّ أقدم خريطة صَنَعها الانسان إذ تعود الى القرن السادس ميلادي، وقد جعلت مدينة القدس
عنصراً مركزياً.
من مادبا صعوداً تتّجه الى مقام النبي موسى الذي أطلّ منه على الاراضي المقدسة، ودُفن فيه. وليس مستغرَباً أن يكون البابا يوحنا بولس الثاني قد أطلّ منه ليلقيَ خطبة دينية عام 2000 أثناء زيارته الأردن في رحلة الحجّ الشهيرة، حيث أعلن أنّ جبل نيبو هو أحد اهمّ مواقع الحجّ الرسمية للالفية الثانية. وقد زار المكان أيضاً البابا بندكتوس الثاني في أيار 2009 كجزءٍ من زيارته الى الاراضي المقدَّسة.
البتراء (بترا)
لا يصعب على مَن يزور البتراء أن يُدرك أسبابَ تصنيفها كإحدى عجائب الدنيا واعتبارها موقعاً تاريخياً ترعاه الأونيسكو. تُبهرك البتراء بكلّ ما للكملة من معنى. تحتار أين تنظر ومن أين تبدأ.
لكن سرعان ما تجدُ نفسَك تسير في سيق (ممرّ طويل بين الصخور) يزيد طوله عن الكيلومتر تحيط به من الجانبين منحدراتٌ صخرية يصل ارتفاعها الى 80 متراً، لتصل في نهاية السيق الى «الخزنة» التي ترتفع متوهّجة تحت أشعة الشمس، وهي المَعْلَم الاكثر شهرة في البتراء.
وعندما تتعمّق في استكشاف البتراء، تُدرك لماذا اختارها الأنباط (بدو رحّل) للاستقرار، إذ إنهم بُهروا بروعة المكان ووفرة مياهه وجباله الدفاعية الحصينة والجيرة المسالِمة. فجعلوها مدينتهم، وحوّلوها ملتقىً تجارياً مهماً. لكنّ أكثرَ ما يُذهلك براعتهم في الإفادة من المياه إذ بنوا شبكة معقدة في الصخور إضافة إلى سدود وصهاريج لتجميع مياه الأمطار.
لكنّ الرومان حدّوا من المشاريع التوسعية للأنباط وألحقوا المدينة بمستعمرةِ الرومان في المناطق العربية، فتجد أنّ جزءاً كبيراً من البتراء رومانيّ. لتنتشر بعدها المسيحية عبر الامبراطورية البيزنطية، ثمّ الإسلام مع العصر الأموي، وما جاء ليزيد الطين بلة الزلازل العنيفة التي ضربت المنطقة، فوصلت المدينة الى نهايتها. واللافت أنّ المدينة قد فُقدت للعالم الغربي بعد القرن الرابع عشر ميلادي الى أن أعادَ اكتشافَها المستشرقُ السويسري يوهان لودفيج بركهارت.
وادي رم
تجربةٌ نوعية تعيشها في وادي رم، أو «وادي القمر». هناك تتّخذ الطبيعة مفهوماً مغايراً. منحدرات صخرية شاهقة بألوان تتموّج بين الأحمر والأصفر والبرتقالي وصحارٍ تكادُ لا تنتهي. وعلى رغم أنّ المكان يُعَدّ مثالياً للتخييم والسهر ليلاً، إلّا أنّ الجميع يسألك: هل شاهدتَ غروبَ الشمس في وادي رم؟ سؤالٌ لا يفهم لهفة سائله إلّا مَن عاش التجربة.
وهي تجربة لا تفيها الكلماتُ حقَها بالوصف لروعة المشهد حيث تغيبُ الشمس رويداً رويداً لتنامَ خلف الجبال بلونها الاحمر المُبهر، فتلتقي الأرضُ بالقمر في مشهد يمنحك شعوراً غريباً بسلام داخلي.
شلالات ماعين
اللّافت في الاردن أنه يقدّم اليك في الوقت نفسه سياحة علاجية نادرة لا يمكنك تفويتها، وتشكّل شلالات ماعين نموذجاً يُجسّد هذه السياحة. ففي واحة جميلة على حافة البحر الميت، تتساقط شلالاتُ مياه حارة من الصخور لتشكّلَ أحواضاً حرارية طبيعية تستقطب السيّاح العرب والأجانب للعلاج او التمتع.
أما منطقة البحر الميت فتُعتبر أكثر منطقة منخفضة بمعدل 410 م تحت مستوى سطح البحر، تتميّز بخصائصَ علاجية جعلتها «جنّة» للمرضى، وجعلت البحرَ الميت من أهمّ المنتجعات الطبيعية.
المغطس
يقع المغطس في منطقة وادي الخرار التي سُمّيت قديماً، بيت عنيا. هناكَ تعمّد السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان وأعلن بداية رسالته للبشرية. وسُمِّيَت تل الخرار أيضاً بـ»تل مر الياس» نسبة الى القديس ايليا الذي صعد الى السماء من ذاك المكان بعربة من نار.
لكنّ اللافت أنّ اسرائيل لا تعترف بالموقع الحالي للمغطس، فحدَّدت موقعاً آخر في نقطة متداخلة مع الاردن، إذ تفصلك فقط بضعةُ أمتارٍ بين ضفتَي النهر عن الاراضي الفلسطينية المحتلة. هناكَ تستثمر إسرائيل المكان ويمكن للسائح أن ينزل الى المياه للتبرّك، أمّا هذا الأمر فممنوعٌ في الجانب الاردني نظراً لقُدسيّة المكان.
تحدّيات… وطمأَنة
في وقتٍ يطمئنّ المسؤولون الأردنيون الى الوضع الداخلي ويتسلّحون بوعي الشعب، إلّا أنّ القطاع السياحي كغيره من القطاعات يتأثر بأيّ خضّة، وهذا ما حصل عند إعدام «داعش» الطيارَ الأردني معاذ الكساسبة.
وعلى رغم أنّ السياحة استعادت نشاطها في الفترة الأخيرة، لا تزال التحدّياتُ ماثلة على الحدود لجهة تمدّد الارهاب، وداخلياً على مستوى الحاجة لطمأنة الشعب الأردني خصوصاً السكان المحليين الذين يسترزقون من هذا القطاع والذين يشعرون أكثر من غيرهم بتراجعه، إلى جانب ضرورة توفير البُنى التحتية اللازمة لتسهيل التنقل بين الأماكن السياحية لجهة الإنارة اللازمة وتحسين أوضاع الطرقات.
إلى ذلك، يواجه الأردن أطماعَ إسرائيل في ثرواته، خصوصاً أطماعها في مياه البحر الميت الذي ينخفض منسوبُه بمعدّل متر سنوياً ما يُهدّد بجفافه بحلول سنة 2050.
وزير السياحة
تشكل السياحة في الاردن ما يقارب 12 الى 13 في المئة من الناتج الاجمالي.وككلِّ قطاع ونتيجة الأحداث الأمنية، يشهد القطاع السياحي نموّاً في بعض أجزائه وتراجعاً في أجزاء أخرى، وعلى رغم أنّ النموّ لا يلبي الطموحات المرغوبة إلّا أنه بدأ يتحسّن، خصوصاً أنّ القطاع السياحي قطاعٌ واعد نظراً الى الاستثمارات الكبيرة والمتنوِّعة التي تصبّ فيه.
ولأنّ السياحة أحد أعمدة الاقتصاد الأردني واستطاعت توظيفَ أعدادٍ كبيرة من الأردنيين، تدرك وزارةُ السياحة الأردنية أهميةَ دور هيئة تنشيط السياحة والمجهود الذي تبذله على رغم إمكاناتها المحدودة في جذب السيّاح.
«الأردن واحة أمن واستقرار»… بهذه الكلمات يلخّص وزيرُ السياحة نايف الفايز الوضعَ في بلاده، مستنداً إلى أنّ «التهديدَ الأمني لم يعد في بلد معين بل أصبح تهديداً عالمياً».
إعتماد المسؤولين الأردنيين على الوعي الشعبي أساسي، إذ في وقت يؤكد الفايز أنّ الأجهزة الأمنية تتّخذ كلّ الاجراءات الاحترازية اللازمة لحماية الحدود والداخل الأردني، إلّا أنه يعوّل بشكلٍ أساس على وعي الشعب الاردني والتفافه حول قيادته وحكومته.
يفتخر الأردن بأنه جزءٌ من تحالف عربي ودولي ضدّ الارهاب، إذ يجزم الفايز: الخوفُ لا يوصل إلّا الى توتر، والتوتر أمرٌ سيّئ، وسنضرب بيدٍ من حديد كلَّ مَن يهدِّد أيّ فردٍ أردني أو أيَّ جزءٍ من الوطن.
يتمسّك الاردن بالحفاظ على علاقاته مع العرب «الأشقاء». وفي حين يبدو الفايز مطمَئِناً الى السياحة العربية والخليجية، يحضّ في المقابل الأجانب على زيارة الأردن، مشدِّداً على أنّ التسهيلات للعرب مستمرّة والتعليمات واضحة على أعلى المستويات خصوصاً من العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني لتفعيل هذه الإجراءات.
منتجٌ مميّز، أمن واستقرار، وتسهيلات منتظَرة، معادَلة كفيلة بوضع الأردن في مصافي الدول السياحية في المنطقة والعالم… فهل ينجح في الحفاظ على معادلة تحسده عليها بلدانٌ عربية كثيرة، أم أنّ خطرَ الإرهاب ورياح التغيير ستكون أقوى؟