اكتملت الفكرة، وبدأت التمهيدات، فماذا ينتظرون للذهاب نحو «المملكة العربية الهاشمية»، دولة السنة الموعودة في الهلال الخصيب؟
ــــ ضوءاً أخضر أميركياً؟ تدرس واشنطن اطلاق هذا الضوء، ولكن ليس لـ «المملكة العربية الهاشمية»، وإنما لتوريط القوات الأردنية في جنوب سوريا وغرب العراق؛ لا تحتاج هذه العملية إلى زج الكثير من القوات، بل إلى كتائب مغاوير واتصالات وقيادة ميدانية لإدارة المعارك لمسلحي «سي آي إيه»، والعشائر، انطلاقا من الحدود الأردنية ــــ السورية، والأردنية ــــ العراقية.
إنما، حين يتعلق الأمر بالتمدّد على الأرض، والضم، فإن القوات المطلوبة للقيام بهذه المهمة ستكون، بالتأكيد، خارج امكانات الأردن، حتماً. هكذا، تزدوج الخشية من ترابط واقع الوظيفة وأوهام الدور، بحيث يتم الغرق في المستنقع، بلا مخرج.
ــــ جوهر الخطة الأميركية في سوريا يتمثّل في تحجيم الحضور التركي ــــ السعودي ــــ القطري، والامساك بالقوى على الأرض، في إطار تعديل موازين القوى لاجبار النظام السوري على التفاوض من موقع أضعف. لكن الحل في سوريا، ليس هاشمياً، وإنما هو، في النهاية، حل أميركي ــــ روسي، من دونه سيستمر الصراع، بلا حل، أو يتم حسمه بالقوة.
ــــ وجوهر الخطة الأميركية في العراق، لا يتضمن، أيضاً، حلاً هاشمياً، بل تجذير الحضور الأميركي على الأرض، والتوصل، بعدها، إلى صيغة تسوية مع إيران.
في الحالتين، ليست العائلة الهاشمية طرفاً، بل حليفاً محلياً في سياق استراتيجية أميركية عامة. وهناك مَن يظن بأن تدحرج التطورات الميدانية وتنامي الخطر الإرهابي ضد الجميع، بمن فيهم أولئك الذين صنعوه، والمصلحة الإسرائيلية في شطب القضية الفلسطينية وعزل المقاومة، هي عوامل قد تحوّل الوظيفة إلى دور، والمشروع الأمني إلى مشروع سياسي، يضمن للدولة الرعائية، الموارد الكافية.
■ ■ ■
فكرة «المملكة العربية الهاشمية» ممكنة في عرض حاسبويّ مثير، لكنها، في الواقع الفعلي، لا مجال لتحققها. أولاً، لأن المنطقة تخضع، في النهاية، لموازين القوى الرئيسية الفاعلة، وستكون الحلول هي نتاج تفاهماتها: الولايات المتحدة والاتحاد الروسي وإيران والسعودية. وحين تجلس هذه الأطراف على مائدة التسويات، لن تكون عمّان بينها. ثانياً، القوتان العربيتان السنيتان الرئيسيتان، السعودية ومصر، لن تقبلا، بحال من الأحوال، أن تنشأ دولة عربية سنية كبرى تنافسهما. ثالثاً، القسم الغربي من العراق هو مجال أمني واقتصادي حيوي بالنسبة لبغداد وطهران؛ وهاتان قد تتفاهمان مع واشنطن على صيغة مناسبة لوحدة العراق العربي، لكنهما لن تفرّطا، تحت أي ظرف كان، بانفصال هذا الإقليم الحيوي خارج الهيكلية العراقية. رابعاً، جنوب سوريا لا يقع توصيفه الجيوسياسي تحت بند الطائفية أو الجغرافيا المحلية، وإنما يتصنّف تحت بند الصراع الرئيسي في المشرق، أعني الصراع مع إسرائيل. وعلى ذلك، فهو قضية محور المقاومة كله، لا قضية حسابات حدودية أو عشائرية الخ، خامساً، ليس بإمكان الدولة السورية أن تتقلّص من دون أن تسقط وتتشظّى؛ فكل التخيلات عن قبول هذه الدولة بالانكفاء على أساس جغرافيا اجتماعية أو طائفية، ليست سوى تخيّلات ناجمة عن عدم ادراك الكينونة الوطنية ومرجعية الشرعية للجمهورية العربية السورية. شرعية هذه الجمهورية ــــ التي يمثلها نظام وطني متجذر، بغض النظر عن أي وصف آخر ــــ مثلومة، أساساً، بما هو محتل أو منتزع من أراضيها من قبل إسرائيل وتركيا، فكيف، إذاً، تفعل حين يصل الاغتصاب إلى مشارف عاصمتها؟ الحرب لم تنته؛ وبعض المكاسب العسكرية للإرهابيين، لا تغيّر شيئا في التكوين السياسي للوطنية والدولة السورية التي لا تستطيع، بنيويا، أن ترسّم حتى حدود تماسّ داخلها؛ فإما تنتصر أو تنتهي. وعندها لن يكون هنالك إلا الفوضى الشاملة في الهلال الخصيب كله.
■ ■ ■
لكن «المملكة العربية الهاشمية» هي مشروع سياسي جدي، بقدر ما يتصل الأمر بتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، ولحساب إسرائيل؛ فالولايات المتحدة سترى، في هذه المملكة، مشروعاً واقعياً، أولاً، لتوطين جميع الفلسطينيين المقيمين في الأردن، وتجنيسهم جميعاً، وثانياً، لتوطين فلسطينيي سوريا (لجأ أكثر من 60 ألفاً منهم فعلاً إلى البلاد)، وثالثاً، لحل النزاع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي، المتعلق بالأرض والأمن؛ فالمملكة الجديدة، تتوصل إلى ربط كانتونات الضفة بها، بما يمنح اسرائيل معظم ما تريده من الأراضي، وكل ما تريده من الأمن.
لكن، هنا أيضاً، فإن حساب السرايا لا يطابق حساب القرايا؛ فهناك فارق نوعي بين ما تقدمه فئات من فلسطينييي الأردن من ولاء لقاء مكتسبات التوطين، وبين الإرادة الوطنية للشعب الفلسطيني، وقواه المتجددة، لنيل الحرية والاستقلال وإعادة بناء المجتمع الفلسطيني على أرض فلسطين.
العقبة الكأداء في مواجهة مشروع «المملكة العربية الهاشمية»، ستمثّلها تلك القاعدة الاجتماعية التي يظن القصر أنه يستطيع الاستناد إليها. وهو يستطيع، إلى هذا الحد أو ذاك، في سياق داخلي؛ لكن، بالنسبة لمشروع سياسي من شأنه إلغاء الشخصية الوطنية الأردنية، فسيواجه هذا المشروع تمرداً قاسياً. وربما يكون هذا الشعور من ردة فعل الوطنية الأردنية، هو وراء الغموض في طرحه.
لم يفهم النظام الأردني ما الذي حدث في فترة الحراك الشعبي للأعوام 2010 ــــ 2013. لم يتراجع هذا الحراك الراديكالي لأن مطالبه تحققت ــــ وهي لم تتحقق ــــ أو لأنه جرى حل مشكلات المالية العامة وتراجع دور الدولة الاجتماعي وتنامي الفساد ــــ وهي تفاقمت ــــ أو لأنه تمكن من قمعها ــــ وهو لم يكن قادراً ــــ ولكن الحراك الشعبي الراديكالي، انكفأ، واعياً، أمام الخطر المتمثل في الإخوان المسلمين، ومشروعهم الجوهري القائم على تعديل قانون الانتخابات لمصلحة الأردنيين من أصل فلسطيني، وإعادة ارتباط الضفة الغربية في الأردن، وإحلال الهوية الدينية الجامعة، محل الهويتين الوطنيتين في البلاد.
لن تتمدّد «المملكة العربية الهاشمية» شبراً خارج حدود الأردن. ستكون، إذا نجحت، صيغة لتوطين اللاجئين من فلسطين وسوريا والعراق، لا غير، وإلغاء الكيان الوطني الأردني؛ إلام ستقود هذه المغامرة؟
أولاً، انفجار السلم الأهلي والانجرار إلى صدامات أهلية يعلم الله، وحده، مداها؛
ثانياً، التحوّل من الهوية الوطنية المدنية إلى الهوية الدينية المذهبية، سيؤدي إلى تنامي الحواضن الاجتماعية للقوى التكفيرية والإرهابية؛
ثالثاً، التعاون مع ميليشيات مسلحة متمردة وإرهابية، يرتدّ، في كل الأحوال، على الجهات المتعاونة، وتنامي العلاقات مع جنوبي سوريا وغربي العراق، سيعمل كآلية لاستيراد وتوليد العناصر الإرهابية.
رابعاً، كل ذلك، سيتفاعل وسط تمرد فلسطيني وتمرد أردني وانتفاضة اجتماعية، وتفاقم الأزمة المالية والاجتماعية والاقتصادية.
■ ■ ■
رأسمال المملكة الأردنية هو الاستقرار. وقد يتوهّم مَن يخططون في غرف بعيدة عن الواقع، بأن ذلك الاستقرار من صنعهم، من دون أن يحسبوا أنه ناجم عن معادلة معقدة حساسة، محلياً وإقليمياً ودولياً. وأي اهتزاز رئيسي لهذه المعادلة، من شأنه أن يضع البلاد في مهب الريح.