Site icon IMLebanon

عندما تصبح رئاسة الجمهورية أعلى رتب الجيش

 

 

عوض أن يكون سؤالاً برسم الجواب، صار الجواب المعروف القاطع يُغني عن السؤال: رئاسة الجمهورية آخر رتب الجيش. التالية، لكنها الأخيرة، بعد رتبة عماد. كل عماد، المفترض أنه في المنزلة العليا التي تسبق التقاعد، مؤهل عفوياً لأن يصير رئيساً للجمهورية

 

إذا ارتُئِي أن تُروى قصة القادة المتعاقبين على الجيش مع انتخابات رئاسة الجمهورية، لصحّ أن يُدرجوا في فئات أربع: الذين لم يطلبوها وجيء بهم كفؤاد شهاب، والذين أرادوها ولم يُؤتَ بهم كإميل بستاني وميشال عون وجان قهوجي، والذين لم يطلبوها ولم يصلوا إليها كعادل شهاب وفيكتور خوري وإبراهيم طنوس، والذين تحضّروا لها فحضرت إليهم كإميل لحود وميشال سليمان. مع هؤلاء المحظوظين والمتعثّرين سابقتان: رفْض فؤاد شهاب الرئاسة في المرة الأولى كرئيس حكومة انتقالية عام 1952 إلى أن فُرضت عليه بعد ست سنوات، وإخفاق ميشال عون كرئيس حكومة انتقالية بين عامي 1988 و1990 فلم يصل إليها إلا بعد 28 عاماً، منها 11 عاماً في المعترك السياسي نائباً وزعيماً. ثلاثة قادة لم يمهلهم الحظ كي يفكروا فيها: جان نجيم الذي قضى بعد أشهر من تعيينه في سقوط طوافة عسكرية، وإسكندر غانم الذي لم يكمل ولايته بأن أقيل، وحنا سعيد الذي شهد انهيار الجيش إبان الحرب الأهلية.

 

منذ الامتحان الأول لانتخاب قائد للجيش رئيساً للجمهورية، أضحى بلوغ المنصب مشروعاً، وصار يُعدّ حقاً مكتسباً بأن درج، وبات تقليداً في كل استحقاق تقريباً، ويكون ثمة مرشح محتمل له. بات طبيعياً لكل قائد للجيش أن لا يستثني نفسه، وينتظر الأوان الذي يأتي أو لا يأتي. بيد أن انتخاب فؤاد شهاب كرّس مفهوماً إضافياً برّر الترشيح والانتخاب، هو أن أيّ قائد للجيش لا يسعه بلوغ المنصب دونما استعادة دوافع سابقة 1958 المؤسِّسة للتقليد والمبرّرة له: أن ينجم اختياره عن تسوية خارجية تفرض انتخابه، وأن يُحسب الأصلح. أضف أن لا يتحقق ذلك سوى في ظل انهيار أمني.

 

يكاد الوحيد، الأول والأخير، الذي أفصح عن أهمية الفارق، هو ريمون إده يوم أعطى أمثولة لا تُنسى في الطعن في محاولة ترشيح قائد الجيش، دونما أن ينسى بدوره أن ينحني بعد انتخابه لإرادة التصويت: نافس فؤاد شهاب على المنصب عارفاً سلفاً أنه الفائز. فحوى ترشحه أن يحول دون انتخابه من الدورة الأولى للاقتراع لنزع الإجماع عن التسليم بالإرادة الأميركية – المصرية في اختياره، وكي يؤكد أن منافساً ديموقراطياً خاسراً يترك في التاريخ بصمة توازي انتخاب الرئيس المتوافق عليه خارجياً، ويضمر بذلك إدانة ضمنية للبرلمان المُقترِع. غير أن الأمثولة ذهبت برحيل صاحبها.

عندما تكرر بعد عقود انتخاب قائدين للجيش، بإرادتين خارجيتين مماثلتين، إحداهما سورية بحتٌ وأخرى مزيج ائتلاف إقليمي ودولي، هما إميل لحود عام 1998 وميشال سليمان عام 2008، لم يُبصَر في مجلس النواب مَن يستعير تجربة ريمون إده يعيد بها الأمثولة، وينافس كليهما كي يكون صاحب بصمة الديموقراطي الخاسر. كانت قد تغيّرت الطبقة السياسية برمّتها تقريباً، وتغيّر معها الدستور والدولة وأصول احترام القانون وثقافة الشأن العام: بشبه إجماع انتُخب لحود، وخلافاً للدستور انتُخب سليمان.

لم يكن انتخاب الرئيس المدني مرة في منأى عن تدخلات خارجية إقليمية أو دولية مستترة أو معلنة، إلا أن الاقتراع له في مجلس النواب كان كفيل الإيحاء بأن فوزه خيار ديموقراطي بإرادة وطنية، يتبع قاعدة تداول السلطة، دونما اقتناع المصوِّتين له بالضرورة أنه كذلك. ما إن دخل – أو أُدخِلَ – قائد الجيش في السباق الرئاسي حتى فَقَدَ تداول السلطة مغزاه الديموقراطي، ومجلس النواب دوره، والدستور مغزى الاقتراع السرّي المنصوص عليه في المادة 49. سرّ الاقتراع السرّي أنه يشرّع حق التنافس ويترك لأعضاء السلطة الاشتراعية الاختيار بلا رقيب. مع اتفاق الطائف صارت الفقرة الثانية في المادة 49 – والأصح معظم ما في المادة 49 – معلقة. منذ الياس هراوي إلى ميشال عون، كان على اللبنانيين أن يشهدوا تصويتاً مفضوحاً. الأكثر مدعاة للانتباه، أن قائدين للجيش متعاقبين صارا رئيسين قبل الوصول إلى جلسة مجلس النواب: الأول في دمشق في القمة الأخيرة بين الياس هراوي وحافظ الأسد عام 1998، والثاني في الدوحة عام 2008.

 

تجربة شهاب تلك، المتفق عليها في معزل عن اللبنانيين لإنهاء «ثورة 1958» ووضع لبنان بتسليم أميركي في فلك نفوذ الناصرية، ستشق الطريق أمام ثالث القادة إميل بستاني كي يفكر في هدف مماثل. أن يذهب بنفسه إلى الرئاسة ولا ينتظرها كفؤاد شهاب، وأن يصنع بنفسه الظرف المناسب. خلافاً لسلفه الذي دُعي إلى إطفاء الحرب الأهلية حينذاك وكوفئ على تحييده الجيش في النزاعات الطائفية، وجد إميل بستاني الفرصة الموعودة بعد توقيعه «اتفاق القاهرة» عام 1969، مبكّراً أكثر مما كان مفترضاً. آنذاك تنصّل السياسيون من الاتفاق، مع أنهم صادقوا عليه وعزوه إلى الجيش، ولم يكن في حسبان القائد في ذلك الحين سوى أنه مفاوض باسم السلطات السياسية. غير أن استعجاله الرئاسة انتهى مكلّفاً بإقالته من منصبه منذ الشهر الأول لسنة انتخابات 1970. عِبرة ما حدث في قرار الإقالة، رفض الطبقة السياسية تكرار تجربة ترئيس قائد للجيش في غابة من الزعماء الموارنة المتسابقين على المنصب. لم يُخْرج بستاني من قيادة الجيش سوى رجال الشعبة الثانية النافذين. بيد أنهم احتاجوا إلى تأليب شارل حلو ورشيد كرامي وصبري حمادة وكمال جنبلاط عليه.

درْس إميل بستاني نفسه، بالاستعجال غير المدروس، استعيد بعد 19 عاماً بسعي ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. لكنّ المسار انقلب رأساً على عقب. سبب جوهري مماثل أفضى إلى فشله في الوصول إلى الرئاسة عامي 1988 و1989، هو أنه لم ينتظر الظرف الذي يصنع الرئيس، فاستعجله بتسارع الأحداث والمفاجآت ومحاولة التلاعب بتوازن القوى بالآلة العسكرية كي يمسي أمراً واقعاً. إلا أن النتيجة آلت إلى الوجهة المعاكسة: أضحى العقبة لا الحل. عوض انتخابه ذهبت البلاد برمّتها، بعد جولات عنف مدمرة، إلى خيارين مكلفين: انتقالها من جمهورية ثانية مستقرة إلى جمهورية ثالثة مضطربة، وتسليمها إلى الإرادة السورية كي تحكم نيابة عن اللبنانيين.

 

على مرّ حقبة ما قبل اتفاق الطائف، تسعة قادة توالوا، انتُخب أولهم فقط رئيساً. تالياً، مثّل انتخابه استثناء أكثر منه سابقة. ذلك ما عنته استقالة فؤاد شهاب عام 1960 ثم عودته عنها. عندما تنحّى تصرّف على أنه قائد الجيش المنتخب رئيساً المكلف إنهاء الحرب الأهلية الصغيرة وإعادة توحيد المجتمع وفرض الأمن والاستقرار وإجراء الإصلاحات، بدءاً بالمراسيم الاشتراعية وانتهاءً بالانتخابات النيابية عامذاك. بيد أن عودته عن استقالته بإجماع مجلس النواب، مثّلت كذلك إعادة انتخابه كرئيس مدني يكمل ما كان بدأه. كانت تلك الصورة الاستثنائية التي لم يُتَح في ما بعد، لقائد للجيش صار رئيساً، أو لرئيس حتى، أن يحظى باحترام الانتخاب، لكن كذلك باحترام البقاء في منصبه. ليس مصادفة بعد مرور دهور الاستحقاقات أن تستعاد، قبل كل انتخابات رئاسية وإبانها وبعدها، صورة فؤاد شهاب الرئيس المتشبَّه به دونما أن يشبهه أحد. أن يُنصف الرجل بعد 58 عاماً على انقضاء ولايته، و49 عاماً على رحيله، فيكون الوحيد تقريباً يؤتى به على ذكر المثال.

أما ما بعد اتفاق الطائف، فأضحى وصول قائد الجيش إلى الرئاسة في صلب تقاليد الاستحقاق وأحد شروطه اللازمة: أن يكون القائد مرشحاً طبيعياً حتمياً، وأن يمسي رئيساً محتملاً. بين عامي 1989 و2016، نشأت معايير جديدة في تعيينه أو في ترشيحه أو في ترشّحه حتى إلى رتبة رئيس مفترض لرئاسة الجمهورية:

أولها، أن لا يختاره رئيس الجمهورية، بل يؤتى بمَن لم يرشحه ويُستبعَد مرشحوه. لا يكون رجل الرئيس في الجيش، بل الرئيس الخلف المؤجل في الجيش. لذا لم يعد افتراضياً إبصار الرئيس والقائد في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف على طرفي نقيض. لا يجمع بينهما سوى الغموض والالتباس وسوء النيات والأحكام المسبقة. لم يختر الياس هراوي إميل لحود، ولا رشّح إميل لحود ميشال سليمان الذي لم يسمِّ بدوره جان قهوجي. حسمت سوريا تعيين إميل لحود وميشال سليمان دونما استمزاج رئيس الجمهورية رأيه. بخروجها لم تتبدّل قواعد اللعبة. احتاج قرار تعيين جان قهوجي، قبل الوصول إلى مجلس الوزراء، إلى سلبية ميشال سليمان حيال تعيين جورج خوري المدير السابق للمخابرات قائداً للجيش، وإيجابية خروج اسم جان قهوجي من عين التينة كي يمر بوزير الدفاع الياس المر فيُسلّم رئيس الجمهورية به.

 

ثانيها، أن تدرج مع جان قهوجي سابقة لم يخبرها قبلاً تاريخ الحكومات اللبنانية ولا تاريخ المؤسسة العسكرية: تعيينه بتصويت في مجلس الوزراء. حدث ذلك للمرة الأولى عام 2008، وكان ثمّة ثلاثة وزراء ضد تعيينه. كانت تلك أولى العلامات غير المسبوقة في السنوات المنصرمة في عمر اتفاق الطائف، أن يصبح تعيين القائد رهن إرادة مجلس الوزراء، وتالياً أن ينجم ليس عن التوافق عليه فحسب، بل أن يرمي الاختيار إلى اعتقاد كل من الأفرقاء أن الرجل يمكن أن يكون ظهيراً له. الأبعد في هذا الاعتقاد أن القائد يصبح هو الآخر في حاجة إلى تأييدهم ترئيسه. في المقابل لا بأس من التيقن، في لحظة ما، بأن القائد القوي يملك أن يضعف، ويصبح أداة يستغلها السياسيون في شتى ألاعيبهم. ربما المفارقة جعلت الأمثلة المشهودة تدور من حول جان قهوجي أكثر من سواه: لأن رئيس تكتل التغيير والإصلاح ميشال عون رشّح شامل روكز لخلافة جان قهوجي ما إن يحال على التقاعد في أيلول 2013، أعطى خصومه قائد الجيش ما لم يُعطَ أيّ من أسلافه قبلاً: تأجيل تسريحه ثلاث مرات تباعاً (2013 و2015 و2016) للحؤول دون تعيين شامل روكز خلفاً له.

مرة واحدة في تاريخ الجيش جُرِّب تأجيل التسريح عام 1964. كان من المفترض إحالة عادل شهاب على التقاعد عامذاك قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. كي لا يفرض فؤاد شهاب على خلفه بعد أشهر قائداً للجيش لم يُعيّنه هو – على جاري عادة أن الرئيس يأتي بالقائد ويذهبان معاً – صار إلى تأجيل تسريحه أقل من سنة انتهت عام 1965 ما أتاح لشارل حلو تعيين إميل بستاني.

 

ما خلا فؤاد شهاب، لم يحظَ قائد للجيش انتُخب رئيساً باحترام الانتخاب واحترام البقاء في منصبه

 

 

ما دان به جان قهوجي للطبقة السياسية سدّد فاتورته للفور: عندما أحجم عن مهاجمة «جبهة النصرة» و«داعش» في عرسال وجرودها بعد احتلالهما لها وربطها بالجرود السورية في 2 آب 2014، وخطفهما 29 عسكرياً (16 من قوى الأمن و13 من الجيش). لم يكن إحجامه عن إطلاق عمل عسكري لتحرير المدينة وجرودها – وإن تحدّث البعض أنها ضغوط – إلا ردّ الجميل وتلقف الوعود السخية في ما يُفترض أنه الأهم، إبان شغور رئاسي كثر وقتذاك ترداد اسم قائد الجيش على أنه أبرز المرشحين.

آخرها، لا يصير إلى تعيين قائد للجيش، الماروني دائماً، إلا بعد التيقّن بتسليمه أنه ليس وحده مرجعية القرار العسكري. حدث ذلك إبان وجود سوريا في لبنان، فإذا الجيش اللبناني رديف المرجعية الأصل التي هي القوات السورية. أفضل من أحسن إدارة الثنائية غير المتكافئة هذه إميل لحود ورجالاته في اليرزة وفي قصر بعبدا. منذ عام 2005، بمغادرة دمشق لبنان نهائياً، تكررت ثنائية المرجعية: الجيش اللبناني وحزب الله. بات من المحسوم أن لا يصل إلى القيادة – كما إلى الرئاسة – إلا ذاك الآمن للمقاومة. أحياناً يصدق الرهان كتجربتَيْ إميل لحود بأن لا يُعثر له على خطأ واحد في 18 سنة، وأحياناً يُخيَّب كما مع ميشال سليمان.

عون: بين الخطوط الحمر

رة واحدة كان رئيس الجمهورية وقائد الجيش من العائلة نفسها. عيّن فؤاد شهاب نسيبه في شجرة الامارة عادل شهاب قائداً للجيش، فترافقا في الولاية الى نهايتها. في أوان انتخاب الرئيس الخلف امتنع عن تسمية نسيبه الآخر عبدالعزيز شهاب لئلا يخلف شهابي شهابياً. لم يحلم عادل شهاب بالرئاسة وآثر التقاعد بعدما كانت قبضة الجيش في عهد الرئيس بين يديْ رجليْه القويين الواسعي التأثير: رئيس الاركان يوسف شميط ورئيس الشعبة الثانية انطون سعد.

سمّى ميشال عون جوزف عون قائداً للجيش، فعيّنه مجلس الوزراء في 8 آذار 2017 كي يرافقه في ولايته، مع ان موعد احالته على التقاعد متأخر الى 10 كانون الثاني 2024، الى وقت طويل بعد انقضاء ولاية الرئيس الحالي. حتى ذلك الموعد سيحدث الكثير.

 

كانت المرة الاولى، منذ اتفاق الطائف، تكون الكلمة الفصل في التعيين لرئيس الجمهورية، فيعبر في مجلس الوزراء سهلاً. لم يحصل ذلك على صورة ما كان قبل اتفاق الطائف. كل مَن كان الى طاولة مجلس الوزراء له حصته في التعيينات الامنية. فوق ذلك كان تفاهم ميشال عون وسعد الحريري في اول ايامه. هذه المرة اتخذ رئيس الحكومة الموقف المعاكس: لم يحرص على «جبهة النصرة» و«داعش» في عرسال، فأطلق جوزف عون في 19 آب 2017 حملة «فجر الجرود» في بعلبك والقاع. كانت قد زالت الحاجة الى دور جان قهوجي بعدما اضحى في التقاعد، وبدأت الحاجة الى القائد الجديد، الآتي الى المنصب من عرسال نفسها على رأس اللواء التاسع. في الشهر الخامس احدث الفصل الكامل بين عرسال ومسيّسيها. لكن ايضاً اطلق صفارة الفصل الكامل بين الجيش والسياسيين. ذلك ما سيُختبر بعد وقت قصير تباعاً في التعيينات والتشكيلات العسكرية وامتحانات الكلية الحربية وايصاد ابواب الوساطات. كذلك لن يُقرع بابه من اولئك المعتادين على اسلافه حاملي الكوتات.

بين عون الرئيس وعون القائد نسبٌ بعيد قليل الاهمية. الاول من حارة حريك والثاني من العيشية. الا ان علاقة القربى البعيدة، الهامشية في قرار الاختيار، ترجع الى تجاور عائلة زوجة القائد من آل نعمة في حارة حريك عائلة الرئيس، لسنوات طويلة ساهمت في اختلاطهما. وحدها الارض جمعت بينهما. اول معرفة الضابط المتخرّج في المدرسة الحربية عام 1985 بقائده، كانت في السنة التالية، على اثر سقوط الاتفاق الثلاثي عام 1986، ما افضى الى اندلاع جولات قتال انتقاماً قادتها سوريا وحلفاؤها على الجيش والقوات اللبنانية في المناطق المسيحية. احداها جبهة الدوّار – العيرون على طريق بكفيا، المقر الصيفي لقصر الرئاسة ومسقط امين الجميّل صاحب قرار اسقاط الاتفاق. كان الملازم عون في فوج المغاوير الذي دُعي الى منع سقوط الجبهة. نجحت المهمة بصمود خطوط التماس هناك بعد معركة ضارية خسر الفوج فيها شهداء. حفظ قائد الجيش ميشال عون يومذاك اسمه من بين ضباط آخرين. الاختبار الثاني كان عام 1990 في القاعدة الجوية في ادما ابان حرب الالغاء المتبادل بين الجيش المؤتمر برئيس الحكومة العسكرية الانتقالية والقوات اللبنانية. حوصر الموقع المقصور على مساحة كيلومترين من جهاته الاربع بعدما تعذّر اسقاطه، الى ان تمكنت وساطة الآباتي بولس نعمان وشاكر ابوسليمان من اجلاء حاميته سرية المغاوير من بينهم الملازم الاول عون. حفظ قائد الجيش الاسم مجدداً. انقطع تواصله بضباطه 15 عاماً بابعاده الى منفى قسري. في المرحلة الجديدة في ظل القائد الخلف للجيش اميل لحود واجه جوزف عون خيبتين: اولى بالغاء اقدمية سنتين حصل عليها في مرحلة القائد السابق في اول قرار للخلف لانهاء تداعيات ما كان حدث ومحو حقبة ميشال عون في ذاكرة ضباطه، ثم – كما سائر الضباط المنضوين سابقاً في الجيش المؤتمرين منه عامي 1989 و1990 – بابعاده الى مواقع غير قتالية هو الآتي من فوج المغاوير.

 

كأي قائد للجيش، سواء رَامَ وضمر او جهر وتجرأ او تجاهل كأنه غير معني، يدرك صاحب المنصب ان الظرف وحده يضعه في الهدف. لا يعود مهماً اذذاك الافراط في كلام السياسة او تقتيره. لذا يكون من الطبيعي ان يهتم القادة المتعاقبون بالكلام في السياسة في غرف منعزلة، ويتجنبونه في الحلقات المفتوحة. احد شروط اقفال الابواب تفادي اللقاء بالصحافيين في اشهر الخصوبة في الاستحقاق الرئاسي. كلاهما، الافصاح والاستنتاج، مضران مع ان اياً منهما لا يصنع من القائد رئيساً.

يقتضي بكل قائد للجيش – لأنه مرشح طبيعي في أوان السلم والحرب معاً – الانتظار بصبرٍ اخفاق السياسيين في اتفاقهم على رئيس من بينهم، كي يُبرَّر لهم المخرج الصائب في رئيس لا يمت بصلة الى مجتمعهم، ان لم يكن نقيضهم. في الغالب يملأ القادة المحتملون للرئاسة، في كل عهد، الوقت للتدرّب على ما قد يأتي فلا يفاجئهم اذا اتى، ولا يخيّبهم اذا خبا. لجان عبيد عبارة مأثورة هي ان الاستحقاق الرئاسي هو من «حسن حظ البعض وسوء حظ البعض الآخر».

في الثلث الثاني من وجوده في القيادة، واجه جوزف عون اعداء غير منظورين كانوا الاشد ضراوة. كان عليه مقاتلة مفاهيم اكثر منها خصوماً يشهرون عليه اسلحتهم. اولهم الحراك الشعبي في 17 تشرين الاول 2019. ليس عدواً لكن الاعتقاد بأن تداعيات ما نشأ عن ظاهرته اخفى كأن ثمة عدواً وراءه. ثانيهم محاولة زج الجيش في اشتباك مباشر مع الطوائف دونما ان يتكشف امامه العدو المعلن له: صدام محتمل مع المسيحيين في جل الديب وذوق مكايل في خلال الاحتجاج الشعبي، صدام محتمل مع الشيعة في الطيونة، صدام محتمل مع الدروز في شويا وقبرشمون. ثالثهم الضائقة المعيشية التي يجبهها جيشه وينذر وحدته وانضباطه ويعرّضه الى التفلت، دونما ان يعرف العدو الذي يُصوِّب عليه سوى انه الطبقة السياسية المتنصلة. رابعهم الترسيم البحري الذي دُعي اليه وانجز مهمته فيه قبل ان يتبين له – وان لدور تقني محدود ليس الا – انه لم يكن سوى اداة مناورة كي يستخلص السياسيون التسوية والصفقة.

 

كلٌ من اختبارات القوة هذه عنى ضمناً امتحان الجيش نفسه بنفسه. كل ما فيها او اختفى وراءها سياسي. كان على الجيش وقائده منذ 17 تشرين الاول 2019، وليست الفصول التالية المنشِئة لاختبارات القوة تلك الا عدّة شغلها، ان يتفادى في جل الديب وزوق مكايل خصوصاً – وفي كل لبنان عموماً – منع عسكرييه من الانجرار الى انفعالات اللبنانيين، ومنعهم من فقدانهم انضباطهم والانضمام الى «الثورة» المعني كل جيش عندما تكون في مواجهة النظام إما الالتحاق بها او قمعها، ومنعهم من الاصطدام بالمحتجين، ومنعهم كذلك من اشتباك «الثورة» بـ«الثورة المضادة» بين مناوئي الطبقة السياسية وحَمَلة عصيّها.

كان عليه في 30 حزيران 2019 الحؤول دون اشتباك درزي – درزي وآخر درزي – مسيحي بسبب انفعالات وتهوّر متبادلين: ان يُقتل ثلاثة دروز من الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الديموقراطي اللبناني بسبب تهور مسيحي نجم عن نبش جبران باسيل ماضي النزاعات المسيحية – الدرزية عام 1989. اطلقت النار على موكب الوزير صالح الغريب فقُتل مرافقاه، كرد فعل غاضب من انصار وليد جنبلاط. كان المحسوب ان يمر باسيل في قبر شمون ويُعتدى عليه انتقاماً من استفزازه، كي ينفجر اذذاك صدام درزي – مسيحي. انفجر كذلك نزاع لا يقل وطأة، درزي – شيعي، في شويا في 6 آب 2021 عندما هاجم دروز البلدة عناصر من حزب الله اطلقوا صواريخ الى اسرائيل من اراضيها. احتجزوا العناصر والمنصة. لتفادي الاسوأ كان على الجيش الفصل بين فريقين كانا جرّبا الاقتتال عام 2008، بأن تسلّم هؤلاء واعادهم الى الحزب لاحقاً.

اختار جوزف عون كذلك، في يوم نزاع اوشك التحوّل فتنة طائفية في 14 تشرين الاول 2021 في الطيونة، تداركها باصدار الجيش بياناً يأمر الجنود باطلاق النار على كل مسلح في الشارع او كل احد يطلق النار من اي جهة. سرعان ما اقترن الامر بتنفيذه، كان كافياً للجم ما كان يُعدّ سلفاً، بأن قتل عسكري ثلاثة مسلحين هاجموه بأسلحتهم لانتزاع بندقيته منه. يومذاك انطفأت الفتنة عند هذا الحد، مع ان طرفي المواجهة الثنائي الشيعي والقوات اللبنانية، كواجهتين لتاريخ دموي قديم للشياح وعين الرمانة، استغرقا في تبادل الاتهامات السياسية.

 

سرّ الفاتيكان

مرّتان في سنة واحدة سأل الفاتيكان عن قائد الجيش جوزف عون ورغب في التحدث إليه. في الغالب ليس ثمّة ما يدعو الكرسي الرسولي إلى السؤال عن عسكريين ولا الاهتمام بشؤونهم، ولا العسكريون يتقنون لغة الكرادلة والأساقفة، ولا حتماً الدفاع عن النفس بالتسامح والغفران والعفو والمصافحة.

عندما حضر وزير خارجية الفاتيكان المونسنيور بول ريشارد غالاغر إلى بيروت في 31 كانون الثاني، حمل السفير البابوي المونسنيور جوزف سيبتيري إلى قائد الجيش رسالة مفادها الآتي: يرغب الوزير في مقابلته. لا يسعه أن يزور اليرزة، وليس مألوفاً زيارة القائد السفارة البابوية. اقترح جمعهما إلى غداء تكريمي لغالاغر إلى طاولة رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر الذي يتيح لهما عقد لقاء على انفراد. بحسب الرواة، وصل النبأ إلى جبران باسيل فرغب إلى رئيس الجمهورية في استقبال الوزير الزائر في موعد الغداء المتفق عليه، واستبقائه إلى مائدة القصر الجمهوري. ذلك ما حصل. كان رئيس التيار الوطني الحر حاضراً في الغداء الرباعي مع الرئيس والوزير والسفير. لم يكن غالاغر التقى في زيارته لبنان أياً من الأفرقاء السياسيين، قاصراً إياها على الرؤساء الثلاثة.

في الغداة، الأول من شباط، قبل توجه وزير خارجية الكرسي الرسولي إلى قصر بعبدا، خابر قائد الجيش وأخطره بأنه سيزوره في مكتبه في اليرزة. على الأثر التقيا لساعة ونصف ساعة، وخاضا في ثلاثة مواضيع: صمود الجيش في الأزمة المعيشية الخانقة في الداخل، النزوح السوري إلى لبنان وكلفته الأمنية على الجيش، ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية.

سأل عنه الفاتيكان مجدّداً وطلب الاجتماع به على أراضيه. هذه المرة الموقف أكثر إحراجاً، إلا أن مصدر الدعوة إلى لقاء عاجل كان من أمين سر الدولة (رئيس الحكومة) الكاردينال بيترو بارولين. ليس معتاداً في دوائر الكرسي الرسولي توجيه دعوة رسمية إلى قائد للجيش، ولا مألوفاً زيارة قائد للجيش إلى هناك والاجتماع بالمسؤولين الكبار خارج البروتوكول الصارم. انتهى المطاف مرة أخرى بطلب الفاتيكان من الحكومة الإيطالية توجيه رئيس الأركان الأدميرال غيسبي كافو دراغون دعوة إلى نظيره اللبناني لزيارة روما على عجل. في ثلاثة أيام أُنجزت الترتيبات الكاملة. صباح 7 أيلول حطّ جوزف عون في مطار روما. تمّت اللقاءات المعلنة مع نظيره ووزير الدفاع الإيطالي لورنزو غيريني. أما غير المعلَن، وهو المقصود في الأصل في الزيارة، فاجتماع قائد الجيش في الفاتيكان بالكاردينال بارولين والمونسنيور غالاغر. بقي هذا الجانب في زيارة إيطاليا مكتوماً دونما أن يخفي دلالته وتوقيته.