Site icon IMLebanon

بين فؤاد شهاب وجوزف عون.. تسوية المِحورَين مُمكنة

 

 

مع كل استحضار لاسم رئيس جديد للجمهورية يأتي من المؤسسة العسكرية بعد قيادته للجيش اللبناني، تُستعاد ظروف مجيء الرئيس الأسبق فؤاد شهاب وتُستذكر حقبته التي تُعَرَّف بـ 12 عاماً بين وصوله رئيسا العام 1958 وحتى هزيمة مرشحه الياس سركيس في 1970، وتُعَنون بـ”النهج الشهابي”، وحتى يمكن العودة إلى سنوات ستة سبقت ولايته الرئاسية للتدليل على هذا النهج الذي شكل فرصة مُجهضة قد لا تتكرر لإصلاح النظام اللبناني..

 

من بين الرؤساء العسكريين الذي تعاقبوا بعد شهاب، وكلّهم جاؤوا في مرحلة اتفاق الطائف، كانت ظروف مجيء ميشال سليمان (2008 – 2014)، بعد فوضى البلاد، هي الأكثر تشابها في لحظاتها المباشرة قبيل مجيء شهاب، لكن في حال وصول قائد الجيش الحالي جوزف عون الى الرئاسة ستكون الظروف العامة لقيادته للجيش هي الأكثر تشابها مع ظروف قيادة شهاب للجيش ومن ثم اللحظات المباشرة، لا سيما مع أدائه الحيادي الى حد كبير في الأزمات المتلاحقة خاصة منذ نيف وثلاث سنوات في ظل واقع معيشيّ صعب جداً على العسكريين.

 

لبنان الذي لا انتخاب لرئيسه من دون غطاء خارجي، في أقل الأحوال، وتسمية خارجية في أكثرها وضوحاً، شهد توافقا خارجيا وداخليا على وصول شهاب الذي كان في استطاعته طرح نفسه مرشحا جدياً لو أراد ذلك منذ العام 1952 حين اختار أولوية حفظ الأمن وحيّد الجيش اللبناني خلال الانتفاضة البيضاء للمعارضة اللبنانية على حكم الرئيس بشارة الخوري المُمدَّد والذي لم تكتب له الخاتمة الزمنية الدستورية.

 

الأمر نفسه في أزمة الرئيس كميل شمعون التي عُرفت بثورة 58 حين لم يواجه الجيش بقيادة شهاب، وهو كان للمناسبة أول قائد له، الهبّة الشعبية على حكم شمعون، مثلما أعلن جهارا أنه سيواجه أية محاولة لإسقاط حكم شمعون في الشارع مع أن سياسيين كثيرين من مجايلي تلك المرحلة كانوا يعتقدون في إمكانية إرغام شهاب شمعون على الاستقالة. وبذلك مسك العصا من المنتصف بين انتفاضة شعبية ذات لون طائفي مسلم غالب مع أقلية مسيحية ذات وزن، وحماية حكم ماروني مثّل رمزية بالغة الأهمية كانت شرطا عُرفيا للاستقلال، ومنع تدخلا عسكريا أميركيا في حال عدم تدخله ذاك.

 

حينها كان الأميركيون ضد الفوضى الشاملة بل يريدون حماية حكمهم في لبنان بعد إسقاط الحكم الملكي في العراق وتهديد الحكم الأردني أيضا بالثورة وسط مد قومي ويساري، وأرادوا تسوية للحل والتفاهم مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، علما أن دولة الأخير حينها كانت ممتدة الى سوريا في زمن الوحدة المصرية السورية لتشكل محوراً مقابلاً للغرب.

 

كانت قيادة الجيش التي لُزِّمت للموارنة أيضا، ذات بعد وطني حيادي أدارها شهاب ببراعة وإتقان حتى بعد تركه لها، ودخل في نزاعات مع قيادات مسيحية دفع ثمنها غاليا بعدها بسنوات فنُزعت عنه مارونيته لتُسقط نهجه في انتخابات 68 التي شكلت المسمار الأول في نعش الشهابية.

 

لطالما شكلت قيادة الجيش، حتى بعد الطائف، رمزية مارونية و”مدنية وطنية” بعيدة عن الطوائف ومحط إعجاب معظم الشرائح في البلاد.

 

وحتى الآن تمثل المؤسسة العسكرية عنوانا بعيدا عن معارك الميليشيات الطائفية والمذهبية، وبينما شبّه كثيرون وصول إميل لحود في 98 بوصول شهاب في 58، فإن تجارب لحود وميشال سليمان من بعده الذي شكل تسوية اتفاق الدوحة بعد حرب أهلية مصغرة في أيار 2008، وقبلهما وبعدهما ميشال عون الذي اعتلى التأييد الشعبي ضد الميليشيات في المناطق المسيحية في 88، لم تحتفظ كلها بمواصفات وصول شهاب الى أعلى موقع ماروني قبلها بعشرات السنوات.

 

نقطة فصل بين مرحلتين

 

واليوم تبدو أيضا ظروف جوزف عون غير مطابقة بالكامل مع ظروف شهاب، لكنها متشابهة في بعض عواملها وأهمها الظرف المفصلي بين مرحلتين، ماضية مرّ بها لبنان وأخرى مقبلة عليه في المستقبل.

 

في الماضي تزامن وصول شهاب مع انهيار النظام الدولي القديم المشرف على لبنان، أي نظام الانتداب في المنطقة وسقوط الزمن البريطاني، وبروز توافق بين محورين متضادين، دولي أميركي وإقليمي مصري، على لبنان، مع موافقة سوفياتية في ظل القوتين العظميين الأميركية والسوفياتية مع انقسام معظم العالم بينهما بعد الحرب العالمية الثانية، شكلت كلها عوامل توافقت مع متغيرات داخلية ديموغرافية وسط صعود إسلامي مسلح وبداية التمرد على الصيغة الطائفية القائمة والتي تفجرت بعدها في العام 1975.

 

طبعا لا يمكن تناول كل المتغيرات الكبرى سواء داخليا أم خارجيا التي رافقت التحولات التي لم يكن وصول شهاب وحكمه من بعدها سوى أحد عواملها. لكن مفصلية المرحلة تلك قد يذكره البعض للإشارة الى نقطة تحول سيعيشها لبنان اليوم بعد انهيار إقتصادي وفوضى سياسية.

 

دشّن وصول شهاب مرحلة من الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي، ولعل الشهابية أرجأت الحرب الأهلية 17 عاماً والتي ما كان من الممكن تجنبها.

 

وإذا كان رموز شهابيون يحمّلون مُسقطي التجربة مسؤولية انفلات الوضع الأمني وبداية الحرب، إلا أن بعض هؤلاء الرموز تورط أيضا في تلك الحرب خالعاً عن نفسه ثوب الشهابية المدنية والحداثية والمؤسساتية.

 

أما الحديث عن استقرار مقبل في لبنان فيستدل مؤيدوه وجهة نظرهم من اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي يمهد لمرحلة جديدة تؤسس لها فترة انتقالية برعاية المؤسسة العسكرية.

 

قد يتحدث البعض عن فشل التجربة الشهابية وعدم الحماسة لتكريس عرف وصول رؤساء الجمهورية العسكر. فمن بين كل رؤساء ما بعد الطائف لم يشذ سوى الياس الهراوي بديل رينيه معوض عن القاعدة، بينما هيمن العسكر بوجوه ثلاثة، لحود وسليمان وعون، على المشهد، ناهيك عن قائد الجيش الحالي الذي يتحدث عنه كثيرون بصفته الرئيس المقبل.

 

مغزى كلام شينكر

 

اليوم باتت مؤسسة الجيش اللبناني حاسمة في موقفها بعد الطائف لناحية توجهها الوطني، لكنها ما زالت تعتمد في شكل رئيسي على الدعم الأميركي، وإن حصلت بعد الطائف على تعزيز سوريّ وكانت في تأسيسها زمن شهاب تعتمد على دعم فرنسي كبير، الذي يشكل عاملاً رئيسياً في تقرير مآل رئاسة جوزف عون.

 

واليوم يعود الحديث عن تسوية دولية إقليمية محلية، عمادها رغبة أميركية غير معلنة لوصول قائد الجيش، يعززها الكلام الأخير للمسؤول السابق والهام في الإدارة الأميركية، دايفيد شينكر، الذي كان مُلماً ومعنياً بالشأن اللبناني، ليُعلي من حظوظ عون حسب مؤيدي الأخير.

 

فقد تحدث هذا المسؤول عن وصول عون خلال أشهر الى الرئاسة، وبينما تحدث البعض عن رغبة أميركية بحرق الإسم، فإن كثيرين توقفوا عند هذا التصريح العلني.

 

صحيح أن الرجل ليس فاعلا في السياسة الاميركية اليوم، لكنه مطلع على التحضيرات والإتصالات الإقليمية والدولية التي قد تدفع في أي وقت نحو التسوية. وأحيانا يتولى المسؤولون السابقون المفاوضات وتوجيه الرسائل بما لا يستطيع الحاليون القيام به، ويقول متابعون للسياسة الأميركية بأن هذا الكلام لا يأتي من فراغ وقد يعبر في شكل أو في آخر عن قرار واشنطن التي لا تريد للوضع

 

الاقتصادي المزري الضاغط على الجميع بأن يمضي نحو انهيار البلاد وهو ما لا يريده أخصام واشنطن أيضا في لبنان وعلى رأسهم “حزب الله”.

 

لذا قد يأتي هذا التقاطع بين هؤلاء اللاعبين على شكل تفاهم أميركي غربي خليجي إيراني غير معلن ما سيفتح الباب أمام تمويل الحل بمعنى الخروج من الأزمة بالتوازي مع إطلاق صافرة الانطلاقة للتنقيب البحري بالتزامن مع استعادة الثقة الخارجية بلبنان.

 

ليس عون مرشح أحد لكنه في المقابل، وهنا مكمن قوته، ليس محط فيتو أحد. لا أحد يدفع به قدماً لكن لا أحد يعارضه بمعنى أن اسمه لا يحضر كغيره من الأسماء التي تتردد بقوة ومعظمها للحرق من دون أن تتخذ جديتها.

 

المتابعون للسياسة الأميركية وردا على قول كثر بفيتو مفترض من”حزب الله” على عون، يشيرون إلى أن الترسيم شكل مهمة أصعب للاتفاق بين الاميركيين والحزب في لبنان، ولولا إرادة “حزب الله” وطبعاً إيران، لما تحقق الترسيم. وليست مهمة انتخاب رئيس للجمهورية بين صائغي الترسيم بالأصعب بعد ما أُنجز. وعلى اللاعبين الداخليين، ولو لم تكن الظروف نضجت، أن يكونوا مستعدين عندما يحضر لبنان على طاولة رزمة التسوية في المنطقة.