تعبث المنظومة الحاكمة بكل مؤسسات البلد، وكأنّ هناك مخططاً جهنّمياً لإسقاط هذه المؤسسات من أجل أهداف باتت واضحة. اعتقد اللبنانيون أن كل القضايا تشكّل مادة انقسام داخلية باستثناء الإجماع على التحقيق في أفظع انفجار عرفه لبنان والعالم وهو انفجار مرفأ بيروت، لكن الشعب كان على خطأ إذ «كشّرت» المنظومة عن أنيابها وحاولت ابتلاع التحقيق وعرقلة عمل المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار، وبعد عودته إلى التحقيق حصل الإنقلاب الشهير بقيادة مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات وتم إخلاء سبيل المشتبه فيهم بقرار كيديّ، وتمّت عملية شقّ الجسم القضائي.
«بعد في مؤسسة الجيش ما ضربوها»، ربما هذه العبارة التي اتفق اللبنانيون بمعظمهم على تردادها بعد رصدهم لـ»العصفورية» القضائية، لكنهم ظنّوا أيضاً، وكانوا «مغشوشين»، أنّ المنظومة لن تتجرّأ على الجيش وتهزّه في هذه الفترة الحسّاسة خصوصاً بعدما قدّم الأميركيون أمس الأول هبة للجيش وقوى الأمن الداخلي من أجل الصمود ومواجهة هذه المحنة.
خاب ظنّ اللبنانيين مجدّداً لأنه لا أحد يتخيّل إلى أين يمكن لهذه المنظومة الذهاب في ضرب أُسس الدولة، فخرج وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال موريس سليم المحسوب على الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل بكلام عالي النبرة ضد قائد الجيش العماد جوزف عون على خلفية الكباش الحاصل في المفتشيّة العامّة في الجيش والمديريّة العامّة للإدارة مع توجّه سليم إلى تكليف ضابط لتسيير أمورها غير الضابط الذي فصله قائد الجيش للغاية نفسها، والأخطر تأكيد سليم أنه «في حال استمرّ جوزف عون في التسلّط وتعدّي حدوده، سأتوجّه إلى مجلس الوزراء للمطالبة بإقالته».
ظنّت قيادة الجيش بعد استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري الثانية وخروج وزير الدفاع آنذاك الياس بو صعب من اليرزة والذي كان ينفّذ سياسة باسيل أنّ الكباش مع وزير الدفاع سينتهي، وشهد الجيش مرحلة تنسيق إلى أن أتى سليم لتنفيذ الأجندة العونية والباسيلية.
وإذا كان الملفّ الرئاسي ومحاولة باسيل تطويق قائد الجيش وحرقه من الأسباب التي تستدعي هجوم سليم، إلا أنّ باسيل يريد تصفية الحساب مع قائد الجيش، فالرجل تمرّد على رغباته في فتح الطرق بالقوة وقمع ثورة 17 تشرين ولم يمنحه ما يريده من سلطة داخل المؤسسة العسكرية، من هنا يكرّر باسيل موقفه بأن جوزف عون هو قائد الإنقلاب.
رأت المنظومة الحاكمة بجناحها العوني الفرصة مؤاتية لاستكمال الإنقلاب، فقد نجحت في شقّ القضاء بعد فرملة عمله نتيجة امتناع عون عن توقيع التشكيلات القضائية والإشكال الحاصل بين عويدات والبيطار، وتريد السيطرة على قيادة الجيش وحرق اسم قائد الجيش المرشح الأوفر حظاً للوصول إلى بعبدا، فرأت فيها لحظة مناسبة للقيام بالإنقلاب الأمني.
نزل كلام وزير الدفاع كالصاعقة على بكركي، وما أثار غضب البطريركية المارونية أنّ باسيل كان مجتمعاً مع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وقام الراعي بمطالعة عن الخطر الذي يُحدق بالدولة وبالمواقع المارونية التي تواجه خطر الفراغ، وقد وعده باسيل بالعمل على إنهاء الفراغ الرئاسي وحماية المواقع المارونية.
وما هي إلا ساعات قليلة على كلام البطريرك وتأكيد باسيل العمل لإنهاء الفراغ وصون المؤسسات حتى خرج وزير الدفاع المحسوب على باسيل بهذا الكلام الذي وصل إلى حدّ الطلب من مجلس الوزراء إقالة قائد الجيش.
لا شكّ أنّ بكركي غاضبة من هذا الكلام والذي قد يوتّر العلاقة مع باسيل، لكن ما هو ثابت وجود حالة من الإنفصام العوني تتحكّم بمصير الإستحقاقات، فمن جهة يُعادون حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ويعتبرونها غير ميثاقية وتضرب المكوّن المسيحي ولا يحقّ لها الإجتماع واتّخاذ قرارات، ومن جهة أخرى يهدّدون أعلى مركز إداري في الدولة ولدى الموارنة بإحالته على حكومة تصريف الأعمال لإقالته، وهذا الأمر لم يتجرّأ على طرحه أي كان. والدستور واضح في هذا المجال، إذ يُعيّن قائد الجيش بناءً على قرار من مجلس الوزراء وتتمّ إقالته إذا قرر المجلس ذلك، ولا تستطيع حكومة تصريف الأعمال إقالة قائد الجيش، علماً أنه في تاريخ الجمهورية اللبنانية لم يُقَل أي قائد للجيش، فكيف الحال بالنسبة للعماد جوزف عون الذي يُعتبر من أهم قادة الجيش وحافظ على المؤسسة العسكرية في أصعب الظروف وأقسى أزمة تضرب لبنان وحصل على مساعدات للجنود من كل دول العالم التي تُبدي باستمرار إعجابها بأداء القيادة والعناصر.
واستناداً إلى القانون، يشكّل قائد الجيش الضباط سواء في المفتشية أو المديرية العامة للإدارة فيما يعيّنهم الوزير ويكلّفهم بالمهام بعدها، فعندما فصل القائد ضباطاً إلى هذه المراكز لم يكلفهم بل قام بعمله القانوني. وعندما يريد وزير الدفاع تكليف الضابط الذي انفصل الى المفتشية أو المديرية يكتب على القرار «بناء لاقتراح قائد الجيش»، وبالتالي فإن وزير الدفاع لا يستطيع التعيين بلا اقتراح قائد الجيش الأسماء.
في أروقة قيادة اليرزة تأكيدات بأنّ ما يقوم به قائد الجيش هو قانوني مئة في المئة وخطواته ضرورية لتسيير شؤون المؤسسة العسكرية التي تعمل خارج الأجندات السياسية، في حين أنّ متابعي الكباش الحاصل يعتبرون أنّ باسيل يقوم بهجوم مضاد مع ارتفاع حظوظ عون الرئاسية، بينما الأساس يبقى هو الهجوم لضرب كل مؤسسات الدولة واستكمال الإنقلاب ومسلسل الإنهيار.