عاد الحراك الشعبي إلى الشارع في الأيام الاخيرة، وبما يذكّر ببداية اندلاع الثورة في 17 تشرين أول عام 2019، وذلك انطلاقاً من اسباب موضوعية، ترتبط بالأزمة السياسية المستفحلة، وعجز القوى السياسية عن تشكيل حكومة اختصاصيين، قادرة على اجراء الاصلاحات المطلوبة داخلياً وعربياً ودولياً، بالاضافة إلى ارتفاع الدولار مع ما رافق ذلك من «جنون» لأسعار السلع الأساسية، والذي بات يهدد لقمة عيش معظم اللبنانيين.
كان اللافت في مواجهة التحرك الشعبي في يوم «اثنين الغضب» السلوكية، التي اعتمدتها وحدات الجيش والقوى الأمنية لرصد التحركات الشعبية وإقفال الشوارع والطرق الرئيسية، مع تحاشي الصدام مع المتظاهرين، وجاءت المفاجأة الكبرى من خلال كلام قائد الجيش العماد جوزاف عون الذي وجهه إلى ضباط الأركان وقادة الوحدات العسكرية، حيث حدد بوضوح وبصراحة المقاربة الجديدة التي سيعتمدها الجيش في مواجهة التحركات الشعبية، والتي تتلخص بحماية الممتلكات العامة والخاصة، وبحفظ الاستقرار والسلم الأهليين. وتوجه العماد عون بسؤال للمسؤولين السياسيين «إلى اين نحن ذاهبون؟ ماذا تنوون أن تفعلوا؟ لقد حذرنا اكثر من مرة من خطورة الوضع وإمكان انفجاره».
يؤشر هذا السؤال إلى مدة خطورة الاستمرار باللعب في الوقت الضائع في ظل الفشل الحاصل في تشكيل حكومة «إصلاحية» قادرة على استعادة الثقة الداخلية والخارجية، وبالتالي إجراء الاصلاحات المطلوبة لفتح الطريق أمام التدفقات المالية المطلوبة سواء من صندوق النقد الدولي أو الدول المانحة.
في رأينا عبّر قائد الجيش بصراحة وشجاعة عن رأيه في المسار الخاطئ الذي تتبعه السلطة السياسية في معالجتها للازمة السياسية والاقتصادية – المالية الراهنة، كما حذرها من الاسترسال في اعتماد الحلول الأمنية في مواجهة مطالب الشعب وغضبه. ولا تعبّر الصرخة التي اطلقها فقط عن رفضه الاسترسال في دفع الجيش لمواجهة التحركات الشعبية في الشارع بل تعكس هواجسه من التداعيات السلبية التي يمكن ان تتركها على حياة العسكريين وحياة عائلاتهم في ظل التدهور المتسارع في سعر صرف الليرة، وما يستتبع ذلك من غلاء فاحش وفلتان لأسعار المواد الأساسية.
يمكن وضع تحذيرات قيادة الجيش للسلطات السياسية في خانة الخوف والحرص على سلامة وتماسك الوحدات العسكرية والحفاظ على معنويات العسكريين، بالاضافة إلى عدد من الاعتبارات الوطنية والأمنية، وأبرزها:
أولاً: أراد قائد الجيش التذكير بالأدوار التاريخية التي لعبتها المؤسسة العسكرية في مواجهة الأزمات الخطيرة التي واجهتها البلاد، حيث اعتمدت القيادة العسكرية الحكمة واستقلالية القرار لمنع انحياز القوة العسكرية إلى جانب السلطة ضد الارادة الشعبية. ويمكن أن نذكر في هذا السياق الموقف الذي اتخذه قائد الجيش فؤاد شهاب إبان ثورة 1958، والذي دعا إلى الحفاظ على سلامة مؤسسات الدولة، وفتح الباب في نهاية الامر لحل سياسي، تحت شعار «لا غالب ولا مغلوب»، كما يمكن التذكير بموقف قيادة الجيش والعماد ميشال سليمان عندما رفض أوامر إقفال الشوارع والطرق لمنع وصول الوفود الشعبية يوم 14 آذار 2005 إلى ساحة الشهداء.
ثانياً، أدرك العماد جوزاف عون المخاطر التي يمكن ان تترتب على وحدة الجيش في حال الاسترسال في استعمال الجيش كأداة لقمع المتظاهرين وفتح المحاور بالقوة، وبالتالي تحوّل الجيش إلى قوة طيّعة لحماية مصالح السياسيين وفسادهم وسطوتهم على المال العام، وتجويع الشعب.
ثالثاً، يدرك العماد عون بأن المسؤولية الاساسية التي يضطلع بها كقائد للجيش تتركز على الحفاظ على وحدة الجيش وعلى معنوياته وذلك انطلاقاً من القول المأثور لأحد القادة العسكريين، والمنقوش على قطعة رخام معلقة في الساحة العامة للكلية الحربية «صحيح ان الجندي يؤخذ عن طريق القلب، ولكن القلب يجاور المعدة». وفي هذا المجال فانه لا يمكن الفصل بين ما يواجهه المواطنون من عوز وجوع وبين ما يواجهه العسكريون وعائلاتهم من جراء تراجع القيمة الفعلية لرواتبهم وقدراتهم الشرائية.
رابعاً، كان اللافت ايضاً اثارة قائد الجيش لمسألة الشح الحاصل في موازنة الجيش، والتي باتت تؤثر على معنويات الجند سواء لجهة الاتفاق على التغذية او على الخدمات الصحية وخصوصاً لجهة تأمين الادوية بالاضافة إلى الخدمات الاجتماعية الاخرى، بما فيها المساعدات المدرسية، والتي تدنت إلى مستويات غير مقبولة خلال السنوات الماضية.
خامساً، يرتبط الجيش اللبناني بعلاقات وثيقة مع القيادات العسكرية لبعض الدول العربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، والتي تحرص بالفعل على تقديم كل انواع المساعدات، سواء لجهة التجهيز بالعتاد العسكري او التدريب في كلياتها ومدارسها العسكرية، او في تنظيم دورات تدريبية تقنية في لبنان. وتقتضي هذه المساعدات ان يلتزم الجيش كمؤسسة بحقوق الانسان والحفاظ على الحريات العامة، والتقيد بالقوانين المحلية والانسانية. ويدرك العماد عون بأن ما تقوم به الوحات العسكرية في تعاطيها مع المتظاهرين سيبقى تحت مجهر ورقابة القيادات الاميركية المدنية والعسكرية. من هنا فان اي استرسال في استعمال الجيش كأداة لقمع التظاهرات سينعكس سلباً على هذه العلاقات، وبما يشكل خطرا على تلقيه للمساعدات اللازمة من القوى الصديقة، وخصوصاً ما يعود للتجهيز بالعتاد والذخائر.
سادساً، يدرك العماد عون مدى اهمية الحفاظ على وحدة ومعنويات الجيش كرمز للاستقلال ولوحدة الدولة، والسيادة الوطنية، وان اي ضعف يلحق به سيؤدي حتما إلى تشظي البلاد، وتفكك الدولة وسيطرة الميليشيات وقوى الأمر الواقع، على غرار ما كانت عليه الامور اثناء عقد ونصف من الحرب الاهلية التي سبقت اتفاق الطائف.
لا يكفي ان تحذر قيادة الجيش السلطات السياسية، بل يجب ان تضغط عليها بكل ما يتوافر لديها من وسائل الاقناع لحثها على البحث عن الحلول السياسية المناسبة للازمة الراهنة، فالأمن وحده لا يكفي لتجاوز المخاطر التي تتهدد الوطن والمؤسسة العسكرية، مع التشديد على ان الخطوة الاولى على طريق الحل المنشود تبدأ بالتوافق على تشكيل حكومة متجانسة مستقلة ومن غير السياسيين.
من هنا يبقى الأمل في أن يتحلّى الرئيس عون بالحكمة والواقعية السياسية، وأن يأخذ كلام قائد الجيش حول المخاطر التي تهدد المؤسسة على المستوى اللازم من الجدية والمسؤولية ليتخلى عن عناده وعن مصالح تياره الضيّقة، ويبادر إلى العمل جدياً مع الرئيس المكلف من اجل تشكيل الحكومة المنشودة بأسرع وقت ممكن.